إدريس الأندلسي
سكن الأمل فئات عريضة من الشعب المغربي منذ أن تم إطلاق مشروع إستراتيجي ملكي إجتماعي سنة 2021 . انطلق المشروع و رصدت له التمويلات اللازمة و التي تجاوزت 51 مليار درهم. تم تخصيص جزء كبير من هذه الميزانية للتغطية الصحية. تم وضع تصورات و مشاريع لتأطير قطاع الصحة و التغطية الصحية لتجاوز كل معيقات الولوج إلى العلاجات و الخدمات الصحية على العموم. يمكن التأكيد على أن توسيع التغطية الضامنة للتأمين الصحي قد تم بالفعل. تجاوزت نسبة هذه التغطية أكثر من ثمانين في المئة و لا زالت هناك مشاكل تحول دون تحقيق الأهداف المتعلقة “بأمو تضامن” و ” بغير الاجراء” . و سندخل قريبا إلى ورش صعب يتطلب حنكة سياسية و ليس مجرد تمظهر للقرار التقنوقراطي. الأمر يتعلق بتكليف الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي بدمج كل المؤمنين من طرف الصندوق الوطني لمنظمات الإحتياط الإجتماعي ( كنوبس). و سيتم فتح هذا الملف في وقت صعب بالنسبة لإعطاء مدلول حقيقي للتغطية الصحية و الولوج إلى العلاجات.
و ظلت التحديات كبيرة بالمقارنة مع الإنجازات. يتطلب إصلاح القطاع الصحي حلا واقعيا للمعضلة الأساسية التي تتمثل في صعوبة تمكين المواطن من حقه في الولوج إلى العلاجات. قد نخصص الميزانيات و نزيد من كثافة النصوص القانونية ، ثم نكتشف بعد سنين أن دخل الفرد أو الأسرة هو الوسيلة المضمونة للحصول على خدمات صحية و ليس الحصول على نظام تأمين إجباري أو تكميلي على المرض. تظل البطاقة البنكية أهم من بطاقة الانخراط في التأمين عن المرض. الأولى تمكن المواطن من الحصول على العلاج مباشرة بعد إصابته بالمرض، و الثانية لا تعفيه من إنتظار شهور و شهور لإجراء فحص طبي. و تظل الأسرة هي الممول الأساسي لتكاليف الصحة ببلادنا. و نعني بالأسرة تلك التي تعيش على الهشاشة رغم تصنيفها كطبقة وسطى. تناضل هذه الأسرة من أجل سكن لائق، ثم تضطر، في كثير من الحالات، بيع هذا السكن لمواجهة تكاليف العلاجات.
من حق المواطن أن يخاف على وضعه إزاء فاعلية نظام التغطية الإجبارية عن المرض و على كل أنظمة التغطية التكميلية التي تتكفل بها التعاضديات المؤسسة للصندوق الوطني لمنظمات الإحتياط الإجتماعي( كنوبس). و من حق المواطن أن يخاف على مستقبل التغطية الصحية في ظل اختيارات حكومية لا تعير أي إهتمام لقضية ” اعتبار الخدمات الصحية كسلع”. و فتح الباب أمام قطاع خاص غير مهني .و أصبحت شركات التأمين مخاطبا رسميا في مجال التأمين التكميلي في إتجاه القضاء الكلي على القطاع التعاضدي التضامني. قد نبني أكبر و أغلى المستشفيات و أكثرها تجهيزا ، و لكن ضمان الولوج إلى العلاجات، كحق دستوري، لا زال بعيد المنال. و قد تندم بعد حين مؤسسات غلبها أصحاب تسليع الخدمات الإجتماعية التربوية و الصحية و حتى الثقافية. و سيحاسب تاريخ بلادنا بعض المسؤولين على قراراتهم ، و على سكوتهم و على غياب فعلهم من أجل تنزيل فعلي و ملموس للمشروع الملكي الخاص بالتغطية الإجتماعية.
و يظهر أن المؤسسة الحكومية تخضع كليا لاختيارات ليبرالية حتى في المجال الاجتماعي. تم فرض القانون 13-131 سنة 2015 لفتح الباب أمام مستثمرين خواص لا يحملون إلا المال لتملك مصحات و مستشفيات. و تزداد وتيرة هذا الإستثمار بشكل سريع قد يشكل خطرا على أرباب المصحات ذوي الاختصاص في مجال الطب. و قد أعطى هذا الهجوم أولى نتائجه بعد تبني القانون 00-65 المتعلق بالتأمين الإجباري عن المرض، و الذي تم بموجبه تحجيم دور التعاضديات في تقريب الخدمات الصحية من المنخرطين في كافة أرجاء الوطن و اختيارها لسياسة القرب التي جعل منها ملك البلاد محور إصلاحاته للقطاع الإجتماعي. و تظل هذه المؤسسات التضامنية صامدة أمام ” سلعنة” الخدمات الصحية و ماضية في معركة من أجل الحفاظ الحقيقي على مبادىء الدولة الإجتماعية التي تبنى على التضامن دون هدف ربحي.
يواجه المواطن المغربي في يومه و حتى في غده صعوبات كبيرة للولوج إلى العلاجات. و ستزداد الأمور تعقيدا بعد ضم الصندوق الوطني لمنظمات الإحتياط الإجتماعي إلى الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي. مشروع الحكومة يطرح قضية تجاهل كبير ذو طابع سياساوي للآلاف من المنخرطين في كنوبس، و تجاهل مستقبل الموظفين، و تجاهل التعاضديات التي أسست أولى بنيات التأمين الإجباري عن المرض في تاريخ بلادنا . قد يتم تمرير مشروع توحيد مؤسساتي لتدبير التأمين الإجباري عن المرض. و آنذاك سيطرح مشكل التعامل مع ملفات المخاطر الصحية الكبرى التي يغطيها الكنوبس حاليا. سيقول لك الصندوق الوطني في شكله الجديد ” عليك أن تدفع تكاليف العلاج المرتفعة أولا قبل أن تضع ملفك أمام مصالحه”. و وجب التذكير بأن الكثير من الموظفين السابقين و الحاليين الذين اصابتهم أمراض مكلفة، سيصبحون في حالة اضطرار لبيع شققهم أو أي شيء يمتلكونه للحصول على علاج قبل فوات الأوان.
و تظل الحكومة ماضية في نهجها المخالف لكل ما قيل عن ” الدولة الإجتماعية “. ستستمر في تجاهل غلاء الأدوية و المستلزمات الطبية في بلادنا. هل لا زال اللوبي يتحكم في الأسعار التي يفوق مستواها أسعار الأدوية في أغلب الدول الأوروبية. و هنا وجب القول أن تدهور التوازنات المالية لمؤسسات تدبير التأمين الإجباري عن المرض أسبابه كثيرة و من ضمنها سعر الدواء. لو طبق المغرب أسعار فرنسا في هذا المجال لتم توفير أكثر من مليار درهم سنويا من تحملات المؤسسات في مجال تعويض ملفات المرض في شقها الدوائي. و يمكن توفير مبالغ كبرى في مجال المستلزمات الطبية.
و يظل الخوف كبيرا على المشروع الملكي الإستراتيجي الكبير الخاص بالتغطية الصحية إذا لم تقم الحكومة بحل معضلة الموارد البشرية. يعرف كل المهتمين بالقطاع الصحي أن كثيرا من الأطباء المنتمين للقطاع العام يشكلون العمود الفقري لمؤسسات القطاع الخاص. و أتمنى أن تصبح هذه القضية من الاختصاصات الفعلية للأجهزة الرقابية و القضائية و ذلك لحماية السلم الإجتماعي ببلادنا. عملت بلادنا على رصد إمكانيات كبيرة لتكوين الأطباء، داخل المغرب و خارجه، و لكن الواقع يبين أن الانتظارات لا زالت قائمة. وجب التأكيد على أن جزءا هاما من الأطباء أخلص للقسم و للوطن. و لكن الاستثناء الكبير موجود. و قد ظلت الحكومات المتعاقبة ضعيفة أمام هروب بعض الأطباء من مسؤوليتهم في المستشفى العمومي و تفضيل الاغتناء غير المشروع عبر اللجوء إلى أساليب ” القطاع غير المهيكل ” . يمنح القانون للأطباء وقتا محددا و منظما، للعمل لدى مصحات القطاع الخاص، و لكن واقع الحال يفسر جزءا من تراجع الولوج إلى العلاجات في القطاع العام. و لقد أصبح من الواجب على الحكومة و كل أجهزتها الرقابية العمل على مراقبة التواجد الفعلي لكل الموارد البشرية في المستشفى العمومي. و تسهم هذه الحالة في تكاثر حالات التهرب الضريبي و الأداء نقدا دون فاتورة.
لا يمكن أن نطمئن على مستقبل التغطية الصحية في ظل غياب تام لتدبير الخلاف بين حكومة و طلبة طب معول عليهم لتحسين أداء القطاع العام، و في دعم العرض الصحي ببلادنا. يستمر الإضراب العام و يستمر التعنت الحكومي و يستمر الخوف على منظومتنا الصحية. لم يتبق للمواطن إلا اللجوء إلى الحكمة الملكية و قدرتها على مخاطبة المغاربة بفعل في التغيير. إذا كانت البطاقة البنكية تفتح باب العلاجات في وجه بعض المواطنين، فإن بطاقة التأمين الإجباري عن المرض يجب أن لا تحرم المريض الفقير و حتى صاحب الدخل المتوسط من الولوج إلى العلاجات قبل فوات الأوان.
و لكل ما سبق يجب ردم الهوة بين أهداف المشروع الملكي الكبير في مجال التغطية الصحية و الولوج الحقيقي إلى العلاجات. هناك هجوم كبير على القدرة الشرائية في عدة قطاعات و على رأسها قطاع الصحة. و هناك أيضا موجة تغيير مؤسساتي لتقليص الخدمات المغطاة بالتأمين الإجباري عن المرض. و لكل من ينكر هذا الواقع زيارة المستشفيات العمومية في الصباح الباكر و الإستماع إلى معاناة المرضى أمام غياب التجهيزات و ضعف حجم الموارد البشرية و إنتظار شهور كثيرة للحصول على خدمة صحية.
قررت الحكومة توحيد النسق المؤسساتي لتدبير التأمين الإجباري عن المرض دون إعطاء جواب عن تخوف المنخرطين في ( كنوبس) من تقليص حقوقهم في تغطية المخاطر الصحية الكبيرة. هل سيتم هدم أولى لبنات التغطية الصحية التضامنية في تاريخ بلادنا، و هل سيتم محو التضامن من القطاع الصحي ليستوطن القطاع الخاص التأميني في التغطية التكميلية. يتطلب الأمر كثيرا من الحكمة للحفاظ على رأسمال لا مادي إسمه ” ثقافة التضامن بين الأجيال ” و دعمه بالتمويل الذي يتم توفيره بسرعة حين يتعلق الأمر بمشاريع كبار الفلاحين و أصحاب الشركات الكبرى في كل القطاعات. إنه السلم الإجتماعي يا سادة…فلنحافظ عليه بالعقل و القرار السديد.