جليل طليمات
تحل ذكرى رحيل المناضل والقائد الوطني الديمقراطي التقدمي عبد الرحيم بوعبيد لتوقظ فينا , ككل سنة, مشاعر متناقضة يتجاذبها ” حنين” لمرحلة نضالية وحزبية ذهبية بقيمها ووهجها النضالي, وألم وقرف من ما آل إليه العمل السياسي من تدهور, وما بلغه الحقل الحزبي من انحطاط وعقم وتفريط في الهوية واستقلالية القرار. أقف هنا بالمناسبة عند ثلاث سمات ميزت شخصية سي عبد الرحيم بوعبيد كزعيم وطني وكمهندس لإستراتيجية النضال الديمقراطي :
1 “الرجولة والمروءة” : هكذا وصفه رفيق دربه المفكر المناضل الراحل محمد عابد الجابري مستحضرا وقفة سي عبد الرحيم التاريخية أمام المحكمة العسكرية يوم 9 غشت 1973 كشاهد في محاكمة إخوانه المعتقلين عقب أحداث مارس 73. فقد دافع الفقيد عبد الرحيم بقوة عن الحزب وعن اختياراته , وحاكم سياسة النظام القمعية اتجاه مناضلي وأطر الحزب , وأكد على استمرارية عضوية الفقيه البصري مادام لم ينزعها منه المؤتمر, محملا النظام مسؤولية ما تخلقه سياساته من إحباط ويأس وسط المواطنين . و لما سأله رئيس المحكمة : “هل يصل اليأس إلى حد التسرب من الخارج وارتكاب العنف ” ؟ أجاب الفقيد ب ” رجولة ” : ” اليأس بطبيعة الحال رد فعل نفساني, وحدوده تتغير حسب طبيعة الأشخاص ,فقد يكون عنفا باللهجة وقد يكون بالسلاح”, وأضاف ” أما الحد الفاصل بين المشروعية وعدم المشروعية فهو واضح بالنسبة لنا, فقراراتنا كحزب علنية معروفة” ( م ع الجابري مواقف ع 8 بتصرف )
2 : الاستماتة في الدفاع عن القرار الحزبي المستقل : يشهد رفيقه محمد اليازغي في كتاب ” ذاكرة مناضل” , أن سي ع الرحيم ” لم يخف عنا في أي يوم من الأيام أي اتصال أو حوار كان يجريه مع الملك الحسن الثاني او مع مبعوثيه.” . على نهج هذا السلوك الديمقراطي الشفاف كانت القيادة تتخذ قراراتها بكامل الاستقلالية والحرية . و قد كانت أصعب المعارك التي خاضها الراحل صحبة إخوانه في القيادة دفاعا عن استقلالية القرار, هي تلك المتعلقة بالموقف من دعوة الملك الراحل إلى استفتاء في الصحراء المسترجعة حيث قال الحزب بقيادته ” لا كبيرة “, تاريخية وشجاعة , وبقية القصة معروفة: الاعتقال والمحاكمة فالسجن . وفي قفص الاتهام أعلن السي عبد الرحيم للمحكمة والرأي العام الوطني والدولي أن السجن “أحب إلى نفسه” من أن يفرط في القرار السياسي الحزبي الواقعي المطلوب موضوعيا لمواجهة تحديات خصوم وحدتنا الترابية ولفرض عدالة قضيتنا..
3: التوافق ” كروح للديمقراطية” : كان سي عبد الرحيم يعتبر التوافق أساس التقدم في البناء الديمقراطي , إلا أن التوافق عنده لا يعني المهادنة أو المجاراة والمداراة , أو التنازل عن المبادئ ابتغاء مكاسب حزبية أو سياسوية ,أو التماسا لرضا السلطوية القائمة, وإنما هو ( أي التوافق) سعي نحو توحيد الآراء المختلفة حول أرضية مشتركة,عبر الحوار الديمقراطي واجتراح المواقف والقرارات الممكنة التي تخدم المصلحة العامة للوطن والمواطنين في ظرفية محددة , إنه روح الديمقراطية , الذي لا يلغي المعارضة, ولا يمحو كلمة ” لا” من قاموس الفاعل السياسي خاصة عندما يتعلق الأمر بالمبادئ والثوابت ,وبالقيم الديمقراطية التي ظل بوعبيد خير تجسيد لها إلى آخر رمق .
إن سيرة سي عبد الرحيم الكفاحية من أجل الاستقلال الوطني , ومن أجل الاستقلال الاقتصادي وبناء مؤسسات الدولة الوطنية الديمقراطية تشكل بحق مدرسة في الثقافة السياسية الحديثة , تقوم على العقلانية والواقعية والأخلاق , فما أشد الحاجة اليوم إلى استلهام وتمثل وتفعيل هذه المكونات للسيرة الكفاحية لسي عبد الرحيم لأجل إعادة الاعتبار للسياسة واستعادة ا لثقة في العمل الحزبي التقدمي والمستقل .