عبد الصادق شحيمة
ترحم واعتذار :
شكرا لكم شعراء الرثاء على قصائدكم البليغة وكلماتكم الخالدة ،وصوركم الشعرية التي حولت الموت إلى خلود ،شكرا لإيماءاتكم اللامعة المؤكدة للأخوة والرفاقية المسلية للنفوس والمخففة لانفعالاتنا الشديدة ورزئنا القوي وكمدنا الذي عجزت متوننا جميعا عن حمله .
علو في الحياة وفي الممات
لحق أنت إحدى المعجزات
كـأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيبا
وكلهم قيام للصلاة
عرف المرحوم مولاي رشيد السيدي أنه مصاب بسرطان المعدة ،فناضل وقاوم بشجاعة ملؤها الأمل، ومغديها الرجاء، لم يعقه المرض ولم تخنه الإرادة عن متابعة الشأن العام،والانكباب على القراءة والكتابة ،وقف إلى آخر لحظة من لحظات حياته شامخا وفخورا ،يناقش مستجدات ملف الصحراء المغربية ،ويستعيد مع محمد فكري في مذكراته ذكريات سنوات الجمر والرصاص ،يسأل عن كتاب مراكش لمحمد ولي الله وعن وجوده في المكتبات وإمكانية الحصول على نسخة منه، يتصفح مرجوعات الملتقى والعدد الأخير من مجلة النهضة ،يستحضر نقاشات الرفاق ،تستشيره جمعية منية ويقترح ما بوسع ساحة جامع الفناء أن ترجع به ألقها وأوجها، يقلب صفحات الجرائد الوطنية الإلكترونية ،يدون في مواقع التواصل الاجتماعي ،ظل مولاي رشيد متمسكا بكرامته الإنسانية وهو يواكب الأحداث مستشرفا مستقبلا يهزم فيه الموت ولعنة المرض الذي كان يترصده ،انتصر المرحوم وانهزم الموت والمرض كما ينهزم أعداء الحياة .
فما تشتفي عيناي من دائم البكا
عليك، ولو بكيت إلى الحشر
فطوبى لمن يبكي أخاه مجاهرا
ولكني أبكي لفقدك في سري
رحيل الأخ مولاي رشيد السيدي المفاجئ والمفجع في آن يدل على مبلغ فداحة الخسارة المتعددة الأبعاد ،تجاه أسرته الصغيرة والكبيرة سياسيا ونقابيا وتعليميا وقيميا ،من ستكون له القدرة على صرف كرب موته وتنفيس بلوى الحاجة فضيلة الغزال، والأخوات الكريمات ،والإخوة الأعزاء الذين كانوا يرون فيه خليفة العالم التقي والعدل النقي، سيدي محمد سالم السيدي السباعي، من سيخفف حجم الفجيعة وتفاقم آثارها ومستتبعاتها عن بسمة البيت وقد صاحبها خبر الموت ونعي الوالد من كندا إلى المغرب، وستعود في غربتها محملة بهذا الفراق القاسي والعنيف بكل المقاييس،من سيواسي محمد سالم في عودته إلى ديار المهجر ،وهو يعرف أن والدته الكريمة توشحت بالبياض حزنا مضاعفا لفراقين متقاربين فراق الزوج وفراق الوالدة .
لم أستطع في أية زيارة من زياراتي للمرحوم أن أودعه، وكنت أضرب موعدا لزيارة لاحقة ،إذ كان المرحوم وهو بين جدران البيت أو أسوار العيادة حاضرا جدا بيننا ومعنا ،كان بدوره دائم التسآل عن كل أصدقائه ورفاقه ،يسأل ولا يعاتب أحدا ،لم تنقطع زيارات معارفه ، ومكالماتهم الهاتفية، وتسجيلاتهم الصوتية، تألم كثيرا وهو يفارق رفاقا أودت بهم كورونا، وفي لحظات اشتداد المرض والدخول والخروج من وإلى العيادة ،كانت له الرغبة الأكيدة في تشييع جنازة المرحوم أحمد طليمات، والعديد من الأصدقاء .
قد كنت أوثر أن تقول رثائي
يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سلامة
قدر وكل منية بقضاء
من وفاته وحتى إشعار آخر، سيستمر فضل مولاي رشيد وأياديه البيضاء على العديد منا ،إنه كان إنسانا كليا تجمع فيه ما تفرق في غيره بانسجام رائع وبكاريزما استثنائية نال من خلالها احترام الجميع وتقدير القريب والبعيد .
لم تكن عائلة وآل السيدي والسباعيين جميعا عائلته الوحيدة، مدينة مراكش بوداعها الأخير كانت العائلة الأكبر والحضن الأوسع ،لم تكن الخسارة مقتصرة على أحد ،بل كانت مشتركة بيننا جميعا،وكذلك البكاء والدموع ،لقد استطاع مولاي رشيد بضميره الحي وأخلاقه العالية ونبله الجميل ،أن يجد مكانا في كل القلوب ،كما استطاع أن يضعها جميعا متجاورة في قلبه .
فأي عزاء نواسيك به عزيزنا وعظيمنا ،إن فراقك نوع من ثقل الروح يسحق القلوب ،ويحول شهقات بكائنا إلى محن مستمرة ودائمة .
صوتك الذي افتقدته بفعل المرض اللعين ،ما زال يجلجل في جنبات كلية الآداب، ومقر الحزب والنقابة، وفي كل قسم دخلته، وفي كل مسجد أديت فيه الصلاة، لقد سكن الأسى في قلوبنا برحيلك، لأنك لم تخذلنا ،ولم تخنا أبدا ،صداقاتك المخترقة للتاريخ مع جيرانك في زاوية لحضر، مع السريدي وعائلته ،والبوعمري وعائلته ،والزنيبر وعائلته ،وابن كيران وعائلته، رفاقيتك مع المناضلين وأصدقاء الدرب أبو الفكر ،ومحمد بنحمو والمدني إدكروم ومصطفى أشرعي وعبد الفتاح الصوفي ومحمد برادة وبن سالم حبيبي والأطلسي والإدريسي والصبان ،ومع الأساتذة إدريس إسلام ،وعادل وعبد اللطيف والمرحوبي وأحمد غيث ومحمد ويلالي وعبد العزيز ساهر وعبد الرحمن الخرشي ……
تتكلم عن الجميع بفخر وحب، لم تخل روحك من الدعابة الجميلة ،والتواضع الجم ،لم نرك إلا فاعلا لا يأويك الفراغ وتثاقل الزمن ،لقد كنت أستاذا وأخا وصديقا حميما للكل ،موتك مرحلة فارقة ،لأنك لم تتوقف عن النضال بعد تقاعدك وتقاعس الآخرين ،كنت تحمل في كينونتك منظومة قيمية سنفتقدها بعدك في زمن المكائد والطعن من الخلف والضرب أسفل الحزام .
نحييك أخي مولاي رشيد حيا وميتا، ونحيي فيك المبادئ والقيم والنبل والكرامة والإخلاص والصدق وكل القيم النبيلة ،ونخبرك وقد فارقتنا أن جنازتك كانت مهيبة حضرها أصدقاؤك ورفاقك وخلانك من كل الشرائح ومن جميع الجهات ،جنازة تذكرنا بشهداء هذه الأمة ومناضليها البررة ،لقد أحببناك وسنظل على عهدنا ما بقينا إلى يوم أن نلقاك .
لقد فقد فيك البعض توأم روحه، كم عشقت أن أراسلك بحجم التعازي التي نتقدم بالشكر الجزيل لكل من واسانا في خطب فقدك الجلل ،لقد أشعرنا موتك بالغضب والحزن ،ها هي بيانات الأحزاب والنقابات والإذاعات والجامعات والمراكز والنوادي والوداديات ناهيك عن الأشخاص تجلجل مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات الجرائد ،الكل يتقدم بتعازيه وحسراته على فقدانك .
شكرا شاهقا على هذا الإجماع الوطني الناذر الذي يعز نظيره ،وتحية عالية لكل من شيع الفقيد أو دون تعزية أو اتصل هاتفيا .
المرحوم مولاي رشيد السيدي ضريح آخر خارج المكان فقدنا فيه الصديق الصدوق لكنه ترك فينا أكثر من وصية روحية وأخلاقية ،نعتذر إن قصرنا في حقه ،لترقد روحه مطمئنة آمنة وليرحم الله روحه بسلام .