ملاحظة أولية هامة : عندما ندافع عن شعر الملحون ندافع عنه من خلال قيمته وقيمه الإبداعية العديدة على كل المستويات ، وفي المقابل الذين يعادونه أو يتنقصون منه ، أو لهم موقف سلبي اتجاهه بسبب بعض المعطيات المجتمعية المختلفة…. إنما العيب فيهم ، والانتقاص في عقولهم ، وهم أسرى لتقاليد وعادات بالية جدا ، وكسالى لا يقرؤون ، وعمي عن الفن والجمال الوافر والمتوفر في متون شعر الملحون ، ولهؤلاء وأمثالهم ممن يشعرون ويهربون من الحقائق حتى لا تتدنس ذواتهم ، وينزلون إلى حضيض المجتمع وهم يوهمون أنفسهم أنهم من ذوي الوجاهة والمقام الاجتماعي العالي…..أقدم هذه الوقفة الجمالية والفنية الرائعة ، ومن باب التسهيل على أولئك المخطئين جعلتها وقفة سهلة ، ومشهورة وموجزة جدا ، ومكتنزة كثيرا ، تتمحور حول مقطع صغير من قصيدة الشاعر الشيخ عبد القادر العلمي : ( دامي شرادة ) لعلهم يقرؤون وينصتون ويعترفون…..
قالت يا هـَـــــذا
بعَّــد عـلـيا لا تـَضْحـَى انكِيد
سَلَّــــــم الإرادة
خِير لِك لا تمشي مطـرود .
بَالَك تَتْمَـــــادى
وِيغـْـــوِيك لْسَانَك بَالنْشِيــــد
رَانــِـي نَـشَّـــادَة
والَعْـرُوبي عندي مُوجـُود .
في هذا المقطع الصغير – كما قلت – من أساليب البيان وبديع القول ما لا يعد ولا يحصى ، فأول ملاحظة أساسية هي صناعة عالم متنوع ولكن يسوده تجانس خلاب ، يتماشى مع السياق العام للأفكار المطروحة ، ويجمع ما بين القوة والسلاسة كما حبذهما الشاعر الكبير عبد القادر العلمي رحمه الله ، ونسجهما على منوال بديع ، وأودعهما في أذن المتلقين المولعين الذين يشتشعرون أثر الكلمة ، وفصاحتها وهي تخوض في رسم المعنى المراد ببلاغة وإبداع كبيرين .
مشهد التحذير العام جاء في سياق حوار يرسم المواقف أكثر من الاهتمام بالبعد اللفظي ، أو اللغوي ، ثم بني على التقابل بمعنى التمدد والتقسيم للأحوال النفسية المتحكمة في المشهد السائد .
هناك توازن في البناء على مستوى اللفظ والصوت والجملة ، فاللفظ يصوغ المعنى ، والصوت يساهم في عملية التجانس والملاءمة بين البناء الداخلي ، والرؤية البصرية ، والجرس السمعي ، أما الجملة فتساعد على التمدد والنغم المفضي إلى القارئ والمستمع .
لاحظ أن أسلوب التحذير ولد حرارة قوية بين أوصال المقطع برمته ، لأنه ابتدأ بنداء مفتوح استوجب تتبعا محاصرا مابين الإيحاء بأشياء ، والنهي عن أخرى مقابلة ، وهي حركية مقصودة من جهة الخلخلة ورسم المواقف المعبرة ، ليتم الانتقال إلى صيغة التحذير الصريح : ( بَالَك تَتْمَادى ) الكاشف لما اعترى الجسد من مفاجآت ، ساهمت في تدفق غزير لكل المؤهلات الفكرية ، والمهارات الفنية ، الملائمة لسياق الشعر ، واعتبار المقصود بالكلام شاعرا مفوها ، لم تعد الساحة تحتضنه بمفرده .
وعلى مستوى البناء والتقسيم باحتساب اللفظ والمدى يمكن أن نكتب المقطع السابق بطريقة أخرى تتداخل فيها كل الأشطر بترتيب جديد ، يظهر عبقرية الشاعر بالإحساس بالكلمة المفردة على مستوى التقسيم الذي يتناهى إلى حد التطابق التام ضمن مسافة الاشتغال الممكنة لبناء المعاني ، كما سنرى من الآتي :
( قالت ياهذا )يتساوى ويتناغم ويتعانق صوتيا ومدى مع :
( بالك تتمادى )
( بَعَّد علي لا تضحى نكيد ) يتساوى ويتناغم ويتعانق صوتيا ومدى مع :
( ويغويك لسانك بالنشيد )
( سلم الإرادة )يتساوى ويتناغم ويتعانق صوتيا ومدى مع :
( راني نشادة )
( خير لك لا تمشي مطرود ) يتساوى ويتناغم صوتيا ومدى مع :
( والعروبي عندي موجود ) .
إنها مهارة الشاعر الفنية ومعرفته الموزونة في كل تفاصيلها ، وقريحته المبنية على نظام متكامل ومتساو من ناحية اللفظ والمعنى ، ولو ركزنا هنا على عدد الألفاظ الواردة في كل سطر لتبينت لنا جزئية صغيرة من جزئيات ذلك النظام الذي وصفناه بالمتكامل ، فلولا بعض التفاوتات الطفيفة جدا على صعيد المعنى لتوهم القارئ أن القصيدة كتبت على هذا الترتيب الجديد من طرف صاحبها الشاعر العلمي رحمه الله .
فالجمع بين المعاني المطلوبة كمعاني الإنشاد ، ومفهوم ( العروبي ) أو الرباعي وهو نمط من أنماط الكتابة في شعر الملحون ، بالإضافة إلى البراعة في رسم المسافات بكلمات محبوكة ، وخاضعة لميزان دقيق ومتكامل من ناحية المساحات الممتلئة بالمعاني المتساندة والمتكاملة أدى إلى صياغة فسيفسائية جميلة جدا ، متعانقة ومتداخلة ، ومتفاعلة على كل المستويات ، مما ساهم في صنع التشويق النفسي المراد لدى القارئ ، وأرخى بظلاله الوارفة على مستويات بنية القصيدة ، فهي رباعية الأشطار ، وذات تمدد متساو من ناحية اللفظ والصوت والمعنى ، وهو وضع يساعد المتلقي على عمليةالتعلق والترنم ، ويساعد المنشد على الآداء بصوت متناغم ومتكامل ، كما يحفز ذهن المتلقي في عملية التتبع الجامعة لكل المحاسن والتأثيرات المتنوعة والمرجوة .
لله درك ياشاعرنا الفذ سيدي قدور العلمي ورحمك الله تعالى رحمة واسعة .
الدكتور مولاي الخاميري