كل شيء ممكن…و كذلك إرادتنا
إدريس الأندلسي
عرفت أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى نمو حركات إجتماعية و سياسية لبست قناع الاشتراكية وغلفتها بالوطنية ذات الأساس العنصري ، لكنها وجهت سهام نقدها إلى كل من يخافها الرأي و النهج و الدين و التعبير. و تحولت ألمانيا و إيطاليا و كثير من أحزاب أوروبا إلى آلات لصناعة العنف و القتل بدرجة فاقت كل ما جرى عند سيطرة الفنيقين و الرومان و المغول و التتار و اليابان على مناطق كثيرة في العالم و خصوصا في القارة الأوروبية . ملايين القتلى هي ما تم اقترافه لكي ينشر ، هذا الغرب دينا أو ينهب ثروات أو إعدام افارقة أو آسيويين. كل هذا دون الإشارة إلى فظاعات دامت قرونا من جراء حروب بين ديانات الغرب الأوروبي و مخلفاتها من المذابح البشرية. و يظهر من التطورات العنيفة التي يعرفها العالم أن الغرب مقبل على إزالة رسمية لقناع وضعه على وجهه بعد الحرب العالمية الثانية. و تلا حقبة ،ما بعد الحرب ، كثير من الأحداث خلال الحرب الباردة . تواجهت الثقافات بشكل موجه و عنصري، و تطورت أساليب المخابرات ، و دخلت أساليب التصفية الجسدية إلى قاموس المواجهة . وجهت المسدسات الصامتة لقتل الفلسطيني الرسام و الشاعر و المفكر في دين الموساد الذي صنع ” دولة” و سخر ملايير أمريكا و ألمانيا لبناء حائط ضد الفكر الحر و محاربة كل أشكال الإبداع الفلسفي و البحث التاريخي و كل أشكال التعبير. يقتلون المؤرخ و الشاعر و المخرج السينمائي و المسرحي وسط بلدان أوروبية دون أن تجرؤ أجهزة الأمن بها على فتح تحقيق، بل و يقفلون باب الاجتهاد الجامعي في كثير من مراكز البحث التاريخي. لائحة التدمير الصهيوني للفكر واصحابه طويلة و تتجاهلها مؤسسات رسمية غربية. المهم هو أن يتم تسخير كل الأسلحة ، بما فيها الفضائح الجنسية، لقمع كل مناد لوقف حدة قمع الشعوب المستعمرة رغم تقديمها ” كلحوم للمدافع” خلال حروب تحرير أوروبا. و الغريب في الموضوع أن هذا الغرب كان يعج بالكتاب و المبدعين المنادين بإقرار فعلى لحقوق الإنسان. ظلت قلة منهم على العهد ، و انقلب الكثير منهم على عصر الأنوار و عصر تحرر العمال بعد نضالات مميتة و تضحيات. و أستمرت أساليب العنف الإستعماري بعد الحرب العالمية الثانية. و أستمر التنكر لدماء من حرروا فرنسا و بلجيكا و إنجلترا و إسبانيا من أبناء أفريقيا الذين كانوا في مواجهة النيران النازية قبل أن يصبحوا في مرمى نيران من كانوا يحررونه من نازية و فاشيستية . تم قتل زعماء التحرر عن طريق عصابات مسخرة من طرف المستعمر في أفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية. و قيل لمن أراد تحرير الأرض و القرار و بناء دولة يسودها القانون أنه إرهابي. أدعو كل من يندهش أمام هذا المشهد الى قراءة جرائد المستعمر غداة نفي الملك محمد الخامس إلى مدغشقر. فرنسا خانت كل العهود و كل المبادىء. و لم ينفع مع المستعمر إلا ترهيبه. ادعوه إلى مشاهدة الأفلام الوثائقية التي تفضح الغرب خلال اغتياله لباتريس لومومبا و موديبو كييتا و غسان كنفاني و أبو جهاد في قلب تونس. لا يهم أن يصرح الخونة أنهم إسرائيليون حتى النخاع. و يستمرون في مواقعهم بين مغاربة أوفياء لوطنهم و لقضاياهم القومية.
و أستمر الإستعمار لأكثر من عشرين سنة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. أستمر الاستغلال الإستعماري للموارد المعدنية و الفلاحية و الطاقية رغم وجود اتفاقيات ضد العنصرية و انتهاكات حقوق الإنسان و سرقة موارد الشعوب المستعمرة. هذا هو حال الغرب الذي يتمكن من صنع المبادىء القانونية و صناعة آليات التنكر لها بقوة السيطرة على القرار في الأمم المتحدة و الاتحاد الأوروبي و غيرها من المنظمات الدولية. و تشارك في هذه الانتهاكات مؤسسات مالية و تقنية تخضع لمجالس إدارية تمتلك حصصا كبرى في راس المال. و هذا ما يقع في مؤسسات بريتون وودز كالبنك الدولي و صندوق النقد الدولي. و لا تفلت مؤسسات مالية قارية من هذه السيطرة كالبنك الأفريقي و البنوك العربية و الإسلامية. و لا تفلت من قبضة المؤسسات ذات الفكر الإستعماري و البعد الإمبريالي جمعيات تدعي انتماءها للحقل الحقوقي و مؤسسات تدعي اهتمامها بالبحث العلمي. و يكفي تتبع التمويلات الخارجية للكثير من الجمعيات لمعرفة مدى الآثار التي تتعرض لها عملية كتابة التقارير. لا يمكن الطعن في كثير من تقارير جمعيات تهم مجلات شفافية تدبير الشأن العام و الدفاع عن حقوق المستهلك و الإنسان. و لكن التمويل و طرق تدبيره لا يخلو من ضغط و من شروط ترهن استمرار عمل كثير من الجمعيات.
و لا يمكن اعتبار هذه التحولات التي تعرفها دول الغرب غريبة على التاريخ البعيد و الحديث. و تظهر تغيرات مواقع التطرف اليميني في أوروبا ربط تدهور اقتصاداتها و أمنها بالهجرة الآتية من الخارج. و لن نجد مثالا أكثر وضوحا من موقف بعض دول هذا الغرب من إغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني. و لقد كان هذا الموقف، قبل ثلاثة عقود، مساندا للأنظمة العنصرية في جنوب أفريقيا و في ” روديسيا ” المسماة حاليا بزمبابوي.
لا و لن يتمكن الإبداع الثقافي من وقف المد العنصري في أية دولة. و يرجع السبب إلى سهولة إنتاج الخطاب الشعبوي و العنصري و قوة تأثيره على فئات شعبية لا تعرف عمق الثقافة و لا علاقة لها بالبحث الجامعي و لا بتاريخ الأنوار. و هكذا توسعت دائرة تأثير خطاب النازية و الفاشيستية الجديدتين و حتى بعض الخطابات الشيوعية و القومية. نور العقل يتم اغتياله بقنابل الجهل المدمرة. و لنا في تاريخنا العربي و الإسلامي أمثلة على معاداة قيم حرية الرأي و الاجتهاد و إحترام العلم. أوروبا ماضية، لا محالة، في نهج تغليب كفة الأحزاب اليمينية المتطرفة على كافة المستويات. و يتم استهداف الأجانب، و لو كانوا مجنسين و ابطالا أو مثقفين أو مهندسين أو أطباء. يجب على انظمتنا السياسية التعامل مع هذا الغرب بذكاء العقل. و هذا الذكاء يفرض علينا إصلاحات حقيقية في المجال الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي. وسيكون كل إصلاح مصدرا لخلق ثروة جديدة و دعامة لمؤسسات الوطن. أما غيابه فسيزيد في اذعاننا لمؤسسات الغرب.
سأفتح باب أحلام اليقظة. وصل اليمين المتطرف للحكم في فرنسا و قرر طرد المهاجرين دون تمييز. و يستمر حلمي و أنا أرى رجوع عشرات الآلاف من الأطباء و المهندسين و الأساتذة الجامعيين و أرباب الشركات و مدراء البنوك و كل الكفاءات إلى الوطن. أحلم بأن تتغير مؤسسات بلادي لتصبح قادرة على تفعيل العدالة و المحاسبة و تمكين الكفاءات من الولوج إلى مساحات الإنتاج و التميز. نعم أحلم بالقضاء على اقتصاد الريع و غياب المنافسة لكي يصبح وطني مركزا لصنع التقدم في كافة المجالات. آنذاك لن يهمني إن حكمت الأحزاب اليمينية أوروبا. هذه القارة صنعت كل المآسي التي لا زالت تأتي على الأخضر و اليابس. و لنا في موقفها، عدا بعض الدول، من مذابح غزة التي تقترفها الصهيونية، خير مثال على حقيقتها التاريخية و استمرار رغبة هيمنتها على خيرات الشعوب. و لكن كنوز الشعوب عيون لا تنضب. و لولاها لما انتصر ” هوشي منه” و غاندي و محمد بن عبد الكريم الخطابي. و مواجهة المستعمر معركة وقودها دماء الشهداء و كرم عطاءهم. هذا العطاء يحبط الخونة من بني جلدتنا الذين يرون في إسرائيل حليفهم و بعضهم يلبسون ثوبه للخلاص من كل أمراضهم المستأصلة في عمق شخصيتهم المريضة .
لأصحاب إسرائيل المرضى بالخوف وجب القول أن اصحابكم قتلوا اطفالا و ركزوا على آلاف الأطباء و على باحثين جامعيين و أساتذة. لا تظنوا يا من يقولون أنهم يشعرون أنهم ” اسراءليون ” بعد السابع من أكتوبر، أن التاريخ وقف عند هجوم و هجوم مضاد. و بين هذا و ذاك كان الغرب، صانع الاستعمار و آليات استمرار تواجده عبر أدوات الأداء المالية، و وجوده في مجالس إدارات أكبر البنوك و المقاولات. و أصبح هذا التواجد أكثر وضوحا عبر الصفقات العمومية ذات القيمة المليارية بالدرهم في السدود و الطرق السيارة و ملاعب كرة القدم. و رغم لذة الفاكهة تظل الرغبة الإمبريالية أكبر شراهة و أقل اعترافا بقضايا بلدنا السياسية.
و تبين حلبة الصراع حول السلطة في أوروبا أن الموضوع يدور حول كيفية لجم طموحات الدول التي كانت مستعمرات سابقة. و لقد جرب الرئيس ماكرون لعبة الاستهانة بدور الشعوب و النخب الأفريقية. و لقي ما لاقاه من مواجهات مع جيل جديد مستعد لكل قطيعة مع الماضي. أظن أن كل ما ستسفر عنه انتخابات فرنسا من تحالفات لن تؤثر على الواقع الحالي للمواقع الدولية . التموقع قرار سيادي في كل الأسواق و إرادة ، لا قيمة لها، إذا لم تستجب لطموحات الشعوب.
أوروبا اليوم لن ترجع بالتاريخ إلى القرن التاسع عشر. آنذاك اجتمع مجرمون في مؤتمر برلين في الجزيرة الخضراء ليقامروا بمصير شعوب أفريقيا و الشرق الأوسط. أن يتطرفوا، فذلك شأنهم، و لكن مستقبل شعوبهم سيظل مرهونا بالطلب الخارجي على إنتاجهم الإقتصادي. و حركة صناعتهم ستظل رهينة مواد خام يمتلكها الجنوب. أما ولوجهم إلى الاكتفاء الغذائي، فذلك يتطلب اتفاقيات كثيرة في مجال توفير الفواكه و الخضروات و الطاقة و المياه و التربة. و هذه الإتفاقيات أصبحت مرفوضة من طرف الشعوب. إذا سيطر اليمين المتطرف في أوروبا، فذلك سيزيدنا قوة و وعيا و صلابة على الالتفاف حول مصالحنا. و السلام على مصالح من يخون البلاد من أجل تصدير مياهنا و خصوبة تربتنا و ضعف حكامتنا و تهاون أحزاب تقود بلادنا إلى الدمار. نبيع كل ما نملك في المجال الزراعي بشيء يزيد على 30 ،مليار درهم. و نستورد كماليات غذائية، لا تستنزف موارد دول المصدر، بمبالغ أكبر. الكافيار و السيجار و السلمون المدخن و معلبات الكبد المدخن ،غالي الثمن، و الاجبان المصنعة و النبيذ المعتق تساهم في عجز الميزان التجاري و في عجز الميزان الجاري لميزان الاداءات. وجب التأكيد على أن الغرب الذي استولى على اراضينا في ” المغرب النافع ” هو من يسيطر على القرار الأوروبي و خصوصا في فرنسا اليوم. نؤكد على أن القرار، اليوم، في يدنا و أن صناديق اقتراعهم تهمنا تاريخيا، كرسالة و ليس كقرار.