عبد السلام المؤذن
بعد انتهاء عصر الإمبراطوريات ( الفاطمية والمرابطية والموحدية والمرينية ) التي توالت على منطقة المغرب العربي الكبير . دخل تاريخ هذه المنطقة عصرا جديدا، هو عصر انطلاق صيرورة تشكل دول وطنية. إن هذه الصيرورة التاريخية ستقود إلى تشكيل ثلاث دول في المنطقة، هي: المغرب والجزائر وتونس.
والسؤال الآن: ما موقع الصحراويين من هذه الصيرورة التاريخية ؟ . ولماذا لم يؤسسوا دولتهم منذ تلك الفترة التي بدا فيها الفرز الوطني على الصعيد الجهوي ؟ .
الجواب بسيط: لان مصيرهم لم يكن مفصولا عن مصير إحدى الدول الثلاث الآخذة في التشكل، وهذه الدولة هي الدولة المغربية.
إن تاريخ منطقة المغرب العربي الكبير ، يؤكد لمن أراد دراسته بموضوعية ، بان الصحراويين كانوا مندمجين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية للدولة المغربية . وهذا الاندماج لم يكن يتم فقط من موقع المتأثر والمنفعل بأحداث الأقاليم المغربية الأخرى. بل أيضا من موقع المؤثر والفاعل في تلك الأحداث نفسها.
إن علاقة التفاعل المتبادل بين الإقليم الصحراوي والأقاليم المغربية الأخرى ، يمكن تحديدها في الجوانب التالية :
1- على الصعيد التجاري : فحتى بعد العصر الإمبراطوري وما رافق ذلك من تراجع للدور التجاري الذي لعبه المغرب كوسيط – عبر الصحراء – بين إفريقيا السوداء والشرق العربي وأوربا ، فان الصحراء احتفظت بدورها التجاري التقليدي بالنسبة للتجارة المغربية الخارجية ، إذ ظل التجار المغاربة يستعملونها كواجهة لتصدير منتوجات الصناعة التقليدية المغربية إلى السنغال والجزائر والشرق ، واستيراد البضائع الأجنبية وعلى رأسها عبيد إفريقيا السوداء الذين كانوا يستخدمون كعمال زراعيين في واحات تافيلالت ، وكخدم في بيوت الإقطاع والتجار .
إن هذا الدور التجاري الحيوي للصحراء بالنسبة للحياة الاقتصادية المغربية ، لم يختف إلا في نهاية القرن الماضي بعد سيطرة رأس المال الاحتكاري الامبريالي على الشواطئ المغربية الجنوبية ، ومن تم القضاء على تجارة القوافل الصحراوية ليحل محلها تجارة السفن البحرية .
2- على الصعيد العسكري : لقد مثلت الصحراء عمقا استراتيجيا بالنسبة للصراعات الطبقية بين مختلف أجنحة الإقطاع المغربي. إن ابرز مثال على ذلك هو التالي : بعد تفكك الدولة السعدية ، نشب صراع عنيف على السلطة بين ثلاث قوى إقطاعية هي : الزاوية الدلائية التي كانت تسيطر على الأطلس المتوسط والأقاليم المجاورة ، والزاوية السملالية التي تسيطر على منطقة سوس ، والعلويين الذين كانوا يسيطرون على تافيلالت – وادي درعة .
إن الهزيمة العسكرية التي تلقاها العلويون على أيدي السملاليين في بادئ الأمر ، ستجعل العلويين يضطرون إلى الانسحاب إلى الصحراء لإعادة تنظيم أنفسهم . وفعلا، إن هذا التراجع إلى العمق الصحراوي ، هو الذي مكن العلويين من الحفاظ على قواهم ومن الزحف إلى الأقاليم الشرقية للقيام بتحالف مع زاوية تازة . وبالتالي من استئناف الصراع الذي سينتهي بسحق أعدائهم السملاليين والدلائيين .
3- على الصعيد الديني : لقد لعب الإشعاع الديني الصحراوي ، وخاصة الإشعاع المنبعث من مركز سمارة ، دورا مؤثرا في الحياة الدينية المغربية. ونفس الشيء في الاتجاه المعاكس : لقد كان الصحراويون يرون في سلطان المغرب الرمز الديني لوحدة البلاد الدينية .
4- على الصعيد الاجتماعي : إن الاندماج بين سكان الصحراء الغربية وسكان الأقاليم الجنوبية ، هو اندماج واضح.
5- على الصعيد السياسي : إن هذا الاندماج يمكن تسجيله من خلال الاعتبارات التالية : أ- بعد انفتاح المغرب على التجارة الأوربية في النصف الثاني من القرن الماضي ، انخرطت الدولة المركزية في عملية التبادل التجاري من خلال تصدير الحبوب والجلود ، واستيراد بعض المواد المصنعة مثل الشاي والسكر والألبسة . إن المداخيل المالية للدولة ، الناجمة عن التصدير وعن الرسوم الجمركية ، ستمكنها من شراء أسلحة أوربية حديثة ومتطورة ، مما سيقوي من قدرتها العسكرية التي ستستعملها لردع حركة التمردات التي كانت تقوم بين الحين والآخر في جهات متعددة من التراب الوطني . وفي هذه المرحلة بالضبط كثرت الحملات العسكرية التي كانت تجوب كل الأقاليم المغربية، والتي كان يقودها السلطان بنفسه. وفي هذا الإطار تزعم الحسن الأول حملات عسكرية متكررة إلى الأقاليم الصحراوية في نهاية القرن . . .
ب – إن حركة ماء العينين – الهيبة، كانت دائما تعتبر 1912. المغربية شؤونا وطنية تهم هذا الإقليم في الشمال أو الغرب كما تهم ذلك الإقليم في الشرق أو الجنوب الصحراوي . ولعل اسطع مثال على ذلك هو موقفها من اتفاقية الحماية 1912 . فلقد اعتبرت السلطان المغربي الذي وقع تلك الاتفاقية مع فرنسا ، سلطانا خائنا لوطنه ، ولذلك نزعت منه شرعية الحكم وطالبت بالعرش ، ثم نظمت مقاومة شرسة ضد الغزو الفرنسي ، مكنتها من الزحف على الأقاليم الداخلية حيث لم تنهزم أمام الجيوش الفرنسية إلا في معركة مراكش .
ﺟ – إن جيش التحرير المغربي الذي خاض الكفاح المسلح ضد الاستعمار الكولونيالي ، لم يكن يميز بين هذا الإقليم أو ذاك ، كما أن العديد من أطره ومناضليه كانوا من أبناء الصحراء .
وبالطبع سيكون من قبيل الطوباوية مطالبة دولة إقطاعية بتحقيق الانصهار المادي لكل أطراف الشعب الواحد، لان ذلك يتجاوز حدود الطبقة التي تستند إليها. أما الانصهار الثقافي الذي هو من طبيعة أخرى ، فهو غير مرغوب فيه بالمطلق ، لان الحفاظ على تنوع الخصوصيات الثقافية للشعب هو مصدر إغناء لذلك الشعب وليس مصدر تفقير أو إضعاف له .
ثم إن ضعف الانصهار بين مختلف أجزاء الوطن، لم يكن أبدا ظاهرة خاصة بالمغرب وحده، بل بجميع الدول الإقطاعية. فمثلا رغم أن فرنسا قد عرفت الدول المركزية منذ قرون قبل الثورة الفرنسية ، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق انصهارها الوطني الفعلي إلا بعد وصول البورجوازية إلى السلطة وتأسيس السوق . إن ضعف الانصهار القومي في المرحلة الإقطاعية ، هو الذي يفسر مثلا الخلاف التاريخي بين فرنسا وألمانيا حول إقليم الألزاس الذي كانت كل من الدولتين تطالب بحقها عليه . ولقد دام هذا النزاع أكثر من قرن ” ولا زال «: في القرن الثامن عشر كان ذلك الإقليم تابعا للدولة الفرنسية. لكن بعد تأسيس ألمانيا لدولتها القومية وخوضها حرب 1871 ضد فرنسا وهزيمة هذه الأخيرة فيها، ضمت ألمانيا ذلك الإقليم إلى دولتها. وفي سنة 1940 بعد هزيمة فرنسا في بداية الحرب العالمية الثانية على أيدي القوات الألمانية ضمت ألمانيا من جديد ذلك الإقليم إليها . ثم بعد نهاية الحرب وهزيمة ألمانيا ، عادت الألزاس مرة أخرى إلى فرنسا سنة 1945 .
ما يريد الراحل عبد السلام الوصول إليه، هو أن خصوصية الإقليم الصحراوي المغربي لم تكن تختلف من حيث الجوهر في شيء عن خصوصيات باقي الأقاليم المغربية الأخرى. وإذا نحن طبقنا تقرير المصير للصحراء انطلاقا من مبدأ الخصوصية، فان هذا المنطق، مدفوعا إلى نهايته. سيقودنا حتما إلى تفجير المغرب وتشرذمه إلى دويلات قزمية . أليس هذا المنطق سخيفا ! .
عجيب أمر هذا ” الشعب ” الصحراوي الاصطناعي الذي تم تفريخه بسرعة تشبه عملية تفريخ الدجاج الاصطناعي