واجب الدولة للحفاظ على إشعاع اصيلا الثقافي، بن عيسى مثال للمثقف العضوي
إدريس الأندلسي
رحل بن عيسى عن عالمنا و ترك آثارا مضيئة في فضاء الثقافة المغربية و في ميدان العمل الدبلوماسي. وصف الكثير من المهتمين بالشأن العام هذا الرجل كأحسن وزير للثقافة مر ببلادنا. لقد أصاب كل من اقتنع بقيمة رأسمال لامادي كان مبدع مؤسساته الراحل. ناضل بكل ما يملك من أفكار و قدرات على الإقناع، صحبة بعض المؤمنين بالفعل الثقافي في التغيير، و على رأسهم الفنان محمد المليحي، لخلق أحد أعرق المهرجانات الثقافية وذلك سنة 1978 .وصل إشعاع هذا المهرجان إلى الكثير من دول العالم حتى أصبح قبلة للعديد من الأدباء و الفنانين و الموسيقيين من البلدان الأفريقية و العربية و الأوروبية و الأمريكية و الاسيوية. و قد وجدت فكرة خلق هذا المهرجان صدى ايجابيا و إرادة لدعمه من طرف الملك الراحل الحسن الثاني . و حصل كل هذا قبل وصول الراحل إلى منصب وزير الثقافة سنة 1985 . و حين دخل مكتبه الوزاري حوله إلى محراب لإبداع مشاريع ثقافية تصعب الإحاطة بتفاصيلها. و لهذا وجب التركيز على بعضها نظرا لحجم تأثيرها على الحياة الثقافية ببلادنا. و هكذا احدثت جامعة مولاي على الشريف الخريفية ، و ضمن مكوناتها مركز للدراسات العلوية في الريصاني يحتوي على رصيد وثائقي تمكن من جمعه مجموعة من الباحثين من خلال أرشيفات أجنبية في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وهولندا وتركيا. و مكنت هذه الأبحاث من اغناء خزانة الوثائق المتعلقة بتاريخ الدولة العلوية. و تمكن الراحل محمد بن عيسى من خلق عدة مراكز و مؤسسات و تظاهرات ثقافية كجامعة المعتمد بن عباد في أصيلا و جامعة الشريف الإدريسي في الحسيمة و مركز الدراسات الأندلسية بشفشاون . و يظل المعرض الدولي للكتاب من أهم المبادرات التي تمت مأسستها سنة 1987. ولا زال معرض الكتاب يشكل موعدا سنويا يجمع بين الكتاب و الناشرين و الزوار الذين وصل عددهم إلى حوالي 320 ألف خلال دورته الأخيرة. و قد تجاوزت المبيعات من الكتب المعروضة المليون. و لا يمكن ذكر هذه المنجزات دون الكلام عن دور الوزير الراحل في مجال تشجيع النشر من خلال إحداثه لمجلة الثقافة المغربية التي كانت تصدر وزارة الثقافة و زيادة الإهتمام بجائزة الكتاب.
و استطاع الوزير الراحل محمد بن عيسى أن يساهم في توثيق مكون مهم في ثقافتنا الموسيقية و الشعرية عبر قيام وزارة الثقافة في عهده بإصدار انطولوجيا الموسيقى الأندلسية. و هكذا تم تسجيل 11 نوبة وتمت طباعتها في أشرطة كاسيت و اسطوانات مدمجة اقتناها المهتمون والباحثون و المولعون بهذا الفن . و مكنت هذه الانطولوجيا من دعم تعليم الموسيقي الأندلسية و الإسهام في إشعاعها على الصعيدين الوطني و الدولي. و لن ينسى المهتمون و الاختصاصيون في علم الآثار إحداث المعهد الوطني المعهد علوم الآثار والتراث سنة 1985. و قد أولى الراحل الوزير بن عيسى أهمية كبيرة لهذا المعهد من خلال توفير الموارد البشرية المالية اللازمة. و لا زالت أعمال هذا المركز مستمرة و نتائجه تكشف عن حقب تاريخية لم تتسنى معرفتها قبل وصول الحفريات إلى سبر اعماقها بمهنية عالية. و لأن التمويل أساسي للتنمية الثقافية، فقد شهد عهد الراحل بوزارة الثقافة إحداث الصندوق الوطني للتنمية الثقافية الذي أصبح من أهم الحسابات الخصوصية للخزينة التي تساهم في دعم العمل الثقافي ببلادنا.
و لا يمكن أن نقرأ محطات الفعل الثقافي للراحل بن عيسى دون أن نربطه بنجاحه في عمله الدبلوماسي خلال سنوات 1993-2007 كسفير في واشنطن و كوزير للخارجية. و لم أجد كلمات تعبر عن عطاءه الدبلوماسي أبلغ مما جاء في تدوينة صديقه وزير خارجية إسبانيا انخيل موراتينوس.
كانت لقاءتهما خلال ثلاثين من العمل الدبلوماسي و الثقافي و الإنساني تختتم، حسب موراتينوس، بكلمة وداع من صديقه بن عيسى بالإسبانية” اديوس اميكو”. ترددت هذه الكلمة خلال سنوات طويلة و كانت آخر مرة يسمعها الصديق الإسباني في شهر أكتوبر الماضي في أصيلا . موراتينوس كان يعتبر اللقاءت الثقافية لهذه المدينة أهم من منتدى دافوس. يعترف كذلك بأن الراحل بن عيسى فتح أمامه أبواب أفريقيا و ثقافتها و حكمة الشرق و ثقافة مفكرين عربا يجهلهم الغرب . ساهمت الثقافة و الحوار بين الرجلين في تجاوز أزمات عابرة بين المغرب و إسبانيا.
و سيظل السؤال الحارق و المهم هو كيف يحافظ المغرب على الرأسمال غير المادي الذي ساهم في صنعه الراحل محمد بن عيسى منذ حوالي 47 سنة . لا أظن أن هذا الأمر سيترك لتدبير إداري أو جمعوي عادي. موسم أصيلا الثقافي يجب أن يظل مؤسسة تحظى بدعم يضمن ديمومة اسهامها في التنمية الثقافية بالمغرب. و لأن قيادة العمل الثقافي تحتاج إلى المثقف العضوي و ذلك المسؤول الذي لا يعتبر المسؤولية كرسيا و لكن ورشا يتطلب عشق الإبداع و القدرة على النهوض بروح فريق العمل و استغلال ما تتيحه شبكة العلاقات الشخصية و المؤسساتية من إمكانيات لاستدامة الإشعاع الثقافي المغربي، فإن هذا الرأسمال اللامادي هذه أمانة في يد الدولة ، و الخير أمام بفضل الله.