بعض من الأكاديميين يترامون في الوقت الراهن على الكتابة والتأليف في مجالات التراث والفنون الشعبية ، وينجزون أبحاثا ومدونات تخلو من معايير الكتابة الخاصة بالتراث ، ومما يلاحظ على تلك المؤلفات ومنذ الوهلة الأولى أنها احتمت بآليات المناهج أكثر من المسائل المعرفية ، بل أحيانا يشاهد نوع من التضليل والاختباء وراء المنهج وقواعد الكتابة الأكاديمية ليبتعدوا عن النص ومعطياته الفكرية والجمالية .
غاب عن مثل هؤلاء الأكاديميين فرق واضح بين المعرفة الأكاديمية والمعرفة الشعبية ، فالأولى عامة ، وتخضع لقيم الثقافة العالِمة في كل لغة ، إن لم يكن الأمر يعني كل الثقافات والمعارف بينما المعرفة الشعبية تتنوع وتختلف ما بين رقعة وأخرى ، ولهذا لا تصلح لها قواعد المعرفة الأكاديمية بمفردها ، وإنما تحتاج إلى شيء من الإنبات في وسطها ، والمعاشرة لأهلها ، وممارسة أنشطتها مدة من الزمن حتى يستطيع المنتمي أن يلاحظ نماذجها في تحركاتها وتشكيلاتها المتنوعة ، ويتــواصل مع مَهَــــرتها من أجل أن يحصل على درجة الفهم ، ويرنو ببصره إلى الاستزادة ، وإذ ذاك يمكن أن تسعفه ثـقـافـتـه الأكاديمية بشيء من الإدراك مُوَاتٍ لها في قواعدها وتفاصيلها .
أعرف بعضا من الأكاديميين ، أو ممن لهم ثقافة عالِمة يرفضون التراث الشعبي ، ويجهرون بمواقفهم امتثالا لجهلهم العام ، وافتقادهم للأرضية الشعبية وإن مروا منها ، لأنهم لم يستوعبوا ما يجري أمامهم بسبب عدم الاهتمام ، والنظرة الدونية التي يحملونها اتجاه كل شيء ينتهي بلفظ ( شعبي ) .
محتوى التراث الشعبي يختلف كما قلت من منطقة إلى أخرى ، فمثلا بلدنا المغـــرب فيه تنوع تراثي كبير له قيمه ومضامينه التي تعبر عنه ، وتسوق أمـثــلــتــه بحمولاتها المحلية والجهوية والوطنية ، فيصعب على أهل الطقطوقة الجبلية أن يستوعبوا بشكل تام مدلولات العيطة كما جاءت في اللون المرساوي والحوزي والحصباوي والزياني……ومثل هذا يقال على فن الملحون في خارج حواضره المعروفة ، وهذا الوضع يجعل المحلية بمفهومها الـــواسع الذي يشمــل الحـــرف ، وفئات السكان ، وتكويناتهم الثقافية والفكرية عاملا أساسيا من عوامل الإبداع والفهم والإدراك .
وفي داخل الفن الواحد سنلاحظ اختلافات متباينة بين مناطق الانتشار على مستوى المعجم والبناء والأداء ، ولهذا كنت دائما من الداعـين إلى المحافظة على محلية الفنون الشعبية بأبعادها القصوى ، وأرفض رفضا تاما دعــوات التوحيد والجمع الذي يُغَلِّب كفة العامل والمُحتضِن والسائد ، والقارئ المتفرد على بقية الأنحاء الفكرية الأخرى ، وقد يكون المطموس والمُبعَد أفضل من ناحية التعبير والدلالة من المجموع والمستشهد به ، ولا أنكــر أن هذا الوضع بالتصور الملاحظ يشكل ثقلا وعقبة في وجه عملية الجمع والفهم والتصور ، ولكن ربما نضحي اليوم بأشياء يمكن أن تتداركها الأجيال المقبلة على أن نضحي بالعمق والأسس اللفظية والنسقية والجمالية التي إذا اخـتـفت لن ترجع أبدا ، فالتراث في عمقه ينبثق ويتأسس على مفاهيم المحلية ، ويقام على مستلزماتها في إطار جغرافي محدد ، وربما ضيق بالمعطيات الفكرية والفنية المتحكمة فيه على كافة المستويات ، وموقفي هذا أفهمه من خلال المقارنة بين من ينادي بهدم كل بناء قديم وإقامته من جديد وفق مستلزمات الوقت في العمران والتــزيـيـن ، وبين من يدعو إلى الترميم والمحافظة التامة على الجوهــر بمعانيه الحية والمستفادة من الزمان والمكان والإنسان والتاريخ والثقافة ، على اعتبار أن كل عهد لا يمكن أن ينوب عن العهود الأخرى ، في تصورات الفرادة والنفاسة التي تخص كل حقبة بمفردها .
إذا كان التصور المؤطر لمعنى التراث الشعبي في منشئه قد بني على مثل هذه الحيثيات الدقيقة وعلى كل المستويات المعرفية والجمالية المصاحبة بمفاهيمها الأصيلة…..فكيف نسمح ، أو يسمح كل من له ثقافة عامة أن يكتب على التراث وفي مسائله ، وربما يعترف في قرارة نفسه أن لا صلة له بما يتصدر للكلام عليه ، بل تفضحه أفكاره الأفقية الواهية ، ومناهجه الفجة الجامدة في التقاط ولو جزء يسير من كنه الدرر التراثية المكـتـنـزة بعبق التراب والهواء ، وبوقائع الأرض ، وضياء السماء .
ومن الأكاديميين من لا يعرف حتى قراءة النص التراثي وتمثلاته الذهنية ، وتشكيلاته الجمالية ، ولا يفقه أوضاعه الناشئة له ، ومقاصده الفكرية والفنية ، ومع ذلك يُــوهِم نفسه بالقدرة على الدراسة والتحليل .
إن النص التراثي تتحكم فيه الأبعاد الذاتية والنفسية في التأسيس والبناء والإخراج ، وتظل مصاحبة له ، دالة على معاني الزمان والمكان فيه ، ثم بعد ذلك تأتي المراحل العامة الأخرى بنسب أقل من سابقتيها ، ومن هنا تَـتـَأًتـَّى الخصوصية التراثية ، ويتبلور التنوع بشكل جميل ومتداخل ، وتـتـكون الحاجة إلى التعبير عن الأحوال في حدودها المشابهة حسب المكان والزمان وتقاليد الإنسان .
فهل مثل هذا التركيب العجيب والغـــريب سَيَسْهُل أمام الثقافة الأكاديمية بمفردها وإن اتسعت ، وجمعت كل المعارف والأفكار ؟ وهل الأكاديمي الصرف سيستطيع أن يفك العلامات والرموز الدافعة والملهمة للمعاني والتجليات المعمارية للتراث على مستوى الذات والمجال الجغرافي ؟ كلا ، ثم كلا ، ثم كلا .
مولاي علي الخامري / الجديدة