في هذا المنعطف أيضا كان الخلاف سياسيا تكتيكيا ( تم تضخيمه وخلطه بما هو استراتيجي) أثمر أرضيتين سياسيتين تعكسان انقسام المنظمة الى اتجاهين متمايزين ,هما ما يطبعا يسار اليوم :اتجاه شعبوي راديكالي يستمد تأثيره وجاذبيته من رفضه المشاركة في المؤسسات والانتخابات الى حين توفر كل ضمانات النزاهة , واتجاه واقعي عقلاني اصلاحي تحديثي ,وهو المنخرط في العملية السياسية الجارية بكل نقائصها وتراكماتها وتوافقاتها منذ التصويت على دستور 1996 بما فتحه من دينامكية سياسية جديدة توجت بحكومة التناوب التوافقي بقيادة الاتحاد الاشتراكي . وقد أدت هذه التجربة الحكومية التوافقية الى خلق شروخ جديدة في الصف اليساري بلغت الى حديث البعض عن وجود يسارين : واحد ديمقراطي راديكالي ,وآخر “حكومي” في أخف نعث له ,و”مخزني” في أشد وصف “بوليميكي “. وعلى الرغم من كل هذا التمايز والاختلاف في تقدير طبيعة المرحلة السياسية التي أعقبت التصويت على دستور 1996 ,بقي شعار أومطلب وحدة اليسار حاضرا بقوة في خطاب وأولويات فصائله على اختلاف مواقفها ومواقعها في المشهد السياسي والحقل الحزبي, وتم عقد تحالفات (التحالف الاشتراكي _ اندماج تيارات وفصائل في حزب جديد هو الحزب الاشتراكي الموحد _ تحالف اليسار الديمقراطي _ثم اندماج الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الاتحاد الاشتراكي ) .ان هذه الدينامية الوحدوية , على محدودية تأثيرها وضعف مردوديتها ,تعكس الوعي اليساري الحاد بضرورة تهيكل قوى اليسار كقوة سياسية وتنظيمية موحدة لتجاوز حالة التشتت غير المبررة موضوعيا والتي لم تساهم إلا في توسيع دائرة اللاتسيس وتعميق الشعور باليأس والإحباط.
وحتى لا تستغرقنا تفاصيل التجربة السياسية والتنظيمية اليسارية , يمكن القول بأن اليسار المغربي هو اليوم أوسع في تمثيليته المجتمعية من أحزابه وفصائله المأزومة عموما، فهو يتشكل من جميع القوى الهيئات والجمعيات الحقوقية والثقافية، ومن الحركات الاجتماعية الاحتجاجية المتعددة المطالب وبكلمة : من كل القوى التي تناضل من أجل مشروع مجتمعي ديمقراطي يحقق الحرية والمواطنة والعدالة والمساواة بالوسائل الديمقراطية.
إن التحدي الذي يواجه قوى اليسار اليوم هو تنظيم وتأطير ما يسمى ب”شعب اليسار ” على قاعدة رؤية جديدة للمستقبل ,بما ينمي تأثيره وقدراته في ترجيح ميزان القوى السياسي والثقافي لصالح المشروع الديمقراطي الحداثي ذي الافق الاشتراكي .
في الشرط الموضوعي للوحدة : على الرغم من حالة التشتت والانقسام في المواقف والمواقع التي يعيشها اليسار المغربي اليوم، فإن الأفق الوحدوي ما زال يشكل الحل الامثل والممكن لهذه الحالة، ذلك ان الكثير من الخلافات السياسية التي كانت وراء الانقسامات طوتها التحولات السياسية التي عرفها المغرب في العقدين الأخيرين سواء على مستوى القضية الوطنية الأولى, قضية تعزيز استرجاع الأقاليم الصحراوية خاصة بعد المبادرة المغربية حول الحكم الذاتي, أو على مستوى الموقف من المشاركة في المؤسسات والاستحقاقات الانتخابية بعد أن أبانت التجربة خطأ الموقف المبدئي القطعي الاطلاقي منها كما مورس سابقا وكان عامل تشتيت وانقسامات داخل الحزب اليساري الواحد…
ان معطيات عصرنا الموضوعية، وطبيعة المرحلة السياسية الراهنة وطنيا وإقليميا، تفرض على قوى اليسار المغربي التوجه بجرأة وشجاعة وصدق وإرادة نضالية نحو إعادة تأسيس اليسار على أسس فكرية وسياسية مطابقة لتلك المعطيات ولحاجات التقدم الديمقراطي.