مرت السنوات وشما على الجدران لن تنمح نحصيها كنبضات قلب يهفو لانفراج مأمول أو كدقات ساعات متثاقلة على حائط ورشة متهالكة تغيب فيها شروط حياة إنسانية ، فرحة مؤقتة استأسدت اللحظة فغمرت جنبات غرفة ضوؤها الخافت المنبعث من شمعة يتراقص في ليلة ظلماء ، يكسر هدوءها نباح كلب أو عواء ذئب أو وقع حافر وحش كاسر ، لايهم فالمشاعر في لحظة غامرة لاتحدها الأمكنة ولا يحاصرها زمان ،تطوف بأجنحتها متعالية تروم السفر إلى حيث الأهل والأحبة ومسار طفولة غني بأحداث ومحطات لامتناهية ، الكل يسترسل بسرعة فائقة . ورغبة جامحة تثوق لطي كل المسافات مهما بعدت.
نعيش قساوة البعد والوحشة التي لايجبرها سوى ظرف متنبر قادم من هناك بعد مدة ليست باليسيرة ، غاب فيها الإتصال بيننا ، رسالة صفراء شاحبة وقد طواها شيخ الدوار وكأنه يكتم أنفاسها حتى لاتبوح لي بأسرارها وبمكنوناتها. أعيد تسريحها لوضعها العادي وأنا أنظر بطريقة استغراب تتهمه بهذا السطو الهمجي على ورقة لاذنب لها سوى أنها قادمة من بيت العائلة تحمل معها أريج المكان وذكريات لن تنمح وسطورا تتأرجح بين مقدمة معتادة ألفت قراءتها وقد ذيلت بجديد من قبيل أنباء عن ازدياد مولود وفلان طريح الفراش ، والدار تنتظر “المانضة” كما هو معلوم وغيرها من التفاصيل التي ترفع من احساسك بالمسؤولية.
نستيقظ باكرا قبل شروق الشمس ، في العتمة ونحن نحمل أحلامنا المؤجلة لعلها ترسو على بر آمن. بعدما أمضينا ليلة ونحن نرتب أفكارنا كما هي حاجاتنا الضرورية ، نسير بخطى مهرولة ونحن في منحدر الجبل الذي يطل على قرية حيث يكثر رواج وسائل النقل السري التي لاتخضع للمراقبة و تبتز كل تائه فقد وجهته في تلك الفيافي مقاهي متناثرة هنا وهناك تصطاد جوعى أرهقهم السير ،فالمنطقة ذائعة الصيت في طبخ الطاجين ،رائحته تستطيع أن تأسرك بمجرد قربك من المكان. أمانبتة النعناع فتلك قصة أخرى فاقت شهرتها الحدود ، كلها ذكريات تشدك إلى المكان شدا فلا تنفك تحضر في مخيلتك بين الفينة والأخرى.
حين تلقيت خبر انتقالي صيف 1991 ، تذكرت كل شيء في جولة خاطفة كأنها طيف يستفز ذاكرتي حتى لاتغفل عن كل ذكرياتي المعتقلة هناك. تذكرت أجواء كل تلك العلاقات المتقلبة بين مسار نقابي ملتهب وشغب طفولي يحمل كثير من المغامرات ، كلما تذكرتها ينتابني سيل من الضحك الهيستيري حين كنا في سمر ليلي رفقة شلة أصدقاء نشرح الأوضاع ونتبادل الأفكار ونختبر جدتها ومدى راهنيتها وكيف كنا ننتقم من كل تلك الأوضاع ككتيبة وجدت لرفع التحدي حتى لايتملكها الإحباط أو تستسلم له.
(ولنا عودة لكل هذه الأحداث).
انتشر خبر انتقالي بالوسط التعليمي كما بالقرية ، نتيجة مفرحة جاءت بعد تذمر شديد وانتظار طويل ، لم أصدق في بداية الأمر لكن الوثائق والأحداث حسمت الأمر ، الفرحة سكرتها فاقت التوقعات وهي تنسيك الأحداث وتجعلك تتساءل حقيقة. هل فعلا انتقلت ؟
أخيرا سيتحقق طلب وأمل كنا ننتظره لسنوات عديدة ،سنوات رسمت في مخيلتي تجربة لايمكن تبخيسها ،بعض من معالمها ساهمت يقينا في بناء شخصيتي الحالية. تجدد التأمل في الخبر فتعيد نبرة الفرح إلى منطلقها الأول .
لكن فرحة رفيقي “كيمو” بادية من بعيد وهو يلوح بيديه ، ما إن وصلت المكان حتى هرول نحوي مسرع الخطى وهو يهنئني بكلام عفوي مزج فيه بين الأمازيغية والعربية ، فرح صادق منبعث من علاقة وفية قال لي في عبارة مؤثرة :
” أور سنغ أمدوكالينو والله … أأفرح للفرج الذي حل ، أنك إنتقلت أم أغضب لأنك ستغادرنا بشكل نهائي ؟ أورسنغ… أورسنغ أبادريس نفرح باهرا….بزاف ؟”
كلماته كوخز الإبر أوجعتني وبدأت أتذكر سيلا من الأحداث والوقائع كنا شركاء فيه. “كيمو” ليس اسما عابرا لينسى بل يفرض نفسه عليك كلما تذكرت المكان إنه يدفعك في كثير من الأحيان لتكتب عليه وحده دون توقف ، شخصية في حضورها وتواضعها تفوق كل الأسماء وكل الأشخاص ، هذا لايعني أنني لا أتذكر كل الأسماء الأخرى ،وإنما تبقى راسخة الأسماء الكبيرة مهما صغر شأنها ،هكذا هو “كيمو” رجل يجمع بين عزة النفس والشموخ وكرم ودماثة خلق ، يجر وراءه تجربة غنية مكنته من إختصار المسافات ،إجتماعي بطبعه ،لاتحتاج لمقدمات من أجل مجالسته ،طبعه المتواضع يأسرك رجل يختزن من الذكريات ماتنوب عن صمت منطقة بكاملها ، يجاريك مهما ارتفع مستوى النقاش. إنسان آنس وحدتنا في مجتمع مغلق وهو يفتح لنا بزياراته المتكررة ذهابا وإيابا نوافذ طردت وحشتنا فلم نعد نحص الدقائق في حضوره لأنه يعتبرها انهزاما أمام وقت يسرع الخطى نحو النهاية. “كيمو”شخصية مرت فريدة في مسار حياتي ولن تتكرر ، أحاول بهذا المقال المتواضع و بهذا النبش المقتضب أن أحقق بعضا من وفاء الرجل . وقد تتكرر عبر مقالات أخرى ،فلن أتوقف عن ذكر سيرته العطرة.
“كيمو” أيقونة أمازيغية وداعا فإن الأمكنة لم تعد تحتضن الأحبة. إلى أن نلتق في مقال آخر ،فلتنم روحك في سلام.
ذ إدريس المغلشي.