“وماأدراك ما ليلة القدر”
تنطوي هذه “العبارة” القرآنية على دمج مبهر ومثير للسؤال بين الإدراك وغياب الدقة في آن معاً مما يوحي -حسب الوحي نفسه- بقصور الكائن البشري عن الإحاطة بكل الظواهر الملغزة للكون…
لقد درج الفقهاء من مختلف المذاهب على تلقيننا أن ليلة القدر ليلة وترية ضمن العشر الأواخر من رمضان دون تحديد حاسم ودقيق للحظتها الفعلية، هي إذن عقيدة مند منطلقها ارتبطت بالغموض الباعث على الحيرة والدافع للإجتهاد فلاغرو إذن أن تشهد ماشهدته من اختلافات مذهبية ظل أغلبها معلقاً فيما تمت الإجابة عن بعظها الآخر بالسيف والدم فقط مما جعل امتداداتها حاضرة الى اليوم …
في تعريف “القدْر” كما في لغة الوحي ليس تمة دقة فالقدْر لغة يعني المكانة والقيمة الشيء الذي يعني أن لليلة قيمتها ومكانتها المتميزة بل هي الليلة الأهم، فهي بصريح النص القرآني خير من ألف شهر، وفي معنى آخر يحيل القدْر الى قدرة الخالق على تحديد النواميس التي تحكم البشرية لذلك خص هذه الليلة دون غيرها بانطلاق أحكامه وشرائعه فيهي ليلة انبتاق سلطة سماوية اختلط فيها الإبهار بالإيمان والشك باليقين سيما وأنها موجهة في مجتمع من الأميين وفي بيئة أبعد ماتكون عن مراكز العلم حينها ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )
ليلة القدر إذن لحظة فاصلة بين الجهل والعلم ولعل مايدعم هذا التصور كون أولى آيات الوحي ارتبطت بالقراءة والقلم وقصة التكوين، غير أن مايثير الاستفهام كون عبارة (ماأدراك) التي شكلت الى اليوم عائقاً أمام الإدراك المطلق للكلم الإلهي فيما يشير لقصور المسلم البسيط عن فهم ليس فقط كل مايحيط به بل مايُشكِلُ عليه من استفهامات تمتد لماوراء الطبيعة، فهل هذا يؤشر لحتمية الوسطاء من أجل فهم أدق للعقيدة رغم أن نفس العقيدة تشير غير ما مرة الى أنه لا رهبانية ولا وساطة في الدين؟!
في مستوى آخر تبدو ترجمة اصطلاح (ليلة القدر ) الى اللغات الأجنبية قاصرة بدورها عن شفاء سيل الأسئلة المنهمر فلا القدَر بمعنى le destin بقادر على أن يعقلن في الحدود الدنيا مسألة الوحي لأنها خارج مثن الإدراك المادي والحسي ولا القداسة المستمدة من عبارة la nuit sacrée بكافية هي الأخرى في نزع أسباب الارتياب وتوطيد الادراك طالما أن كل أقوال وأفعال الرسول مقدسة
“وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا”
ليس أمامنا اذن سوى التمعن في أشكال تمثل المسلمين ثقافياً لليلة القدْر علها تجيب عن ما يحيط بها من أسئلة، فخارج دائرة التحري ضمن الليال العشر، تمة إجماع حول علامات هذه الليلة المقدسة علامات تتأرجح بين مايمكن حدسه بالإيمان وما يمكن ملاحظته بالعين المجردة، فلا قِبل لأحد أن يثبت بشكل عقلاني أنه رأى الملائكة تتنزل أفواجاً أفواجا هذه الليلة، فيما يكون من الأيسر التدليل على صفاء الجو و هدوء الرياح أو بزوغ الشمس بلا شعاع …
ولعل عدم القدرة على الإدراك الدقيق لهذه اللية ( ما أدراك تعني التهويل وصعوبة التقدير) هي ما جعلها ليلة تختلط فيها طقوس الأرض والسماء و تشرئب فيها الوجوه الى السؤال في رحلة الوجود والعدم، اذ خارج الجانب المتعلق بالعبادات والذي تمتاز فيه هذه الليلة عن ماعداها بعلاقة جد خاصة مع السماء وذلك من خلال الإفراط في التدين عبر الإكثار من الصلوات وقيام الليل و توجيه الأدعية الى الخالق ، هناك ممارسات ملتصقة بالأرض تتمثل في الجوانب الثقافية اللصيقة بكل مجتمع مسلم على حدى، فنلاحظ لدينا أن طبق الإفطار غالباً ما يتكون من قصعة الكسكس الذي حتى و إن كان طعاماً سابقاً على الإسلام فالظاهر أن تناوله في صيغته الجماعية يعزز الشعور بالإنتماء للجماعة التي تعد النواة الأولى للأمة، فضلا عن أنه الطعام الذي تختص به الصدقات دون غيره !
في نفس الليلة تعمد عائلات عديدة على سلوك أهازيج خاصة بالأطفال لا سيما البنات حيث يتم تمثيل ما يشبه حفلات الزفاف الخاصة بالكبار والتقاط الصور فيما يحيل الى نوع من تهيئة المستقبل وفق التصور التقليدي الذي يجعل مصير المرأة مرتبط بالزواج وتكوين أسرة…
هناك أيظاً طقوس ومعتقدات غرائبية تشد غالباً عن مغزى تقديس هذه الليلة فالعديد يعتقدون أنها ليلة فك أسر الشياطين والجن من إسارها وعودتها الى أنشطتها المعتادة مما يدل على أن طفرة التدين خلال الشهر الفضيل ليست سوى مسألة موسمية عمادها إرضاء العامة والتماهي مع سلوك جمعي عمّر قروناً طويلة وهو بالتالي أبعد مايكون عن القناعات الراسخة ( لاحظوا طبيعة الصور والرسائل النصية المتبادلة على الواتساب مثلاً فأغلبها يبشر بقرب انتهاء الحضر الإيماني عن محرمات بعينها )
أيضاً لا يمكننا سوى التوقف عند سلوك جماعي يلي مباشرة ليلة القدر إنه ذلك الحجيج الجماعي نحو المقابر !
نعلم بكل تأكيد أن الاسلام يولي مكانة خاصة بل أهم للدار الآخرة حيت يعِد المومنين بالجنه فيها والمشركين بالعداب الأليم، لكن التدفق البشري على المدافن وخارج الجوانب الدينية يدل على علاقاتنا الملتبسة بالحياة كما هي بالموت…
وفي نفس طقس زيارة المقابر ينطلق كرم المؤمنين عبر التصدق بزكاة الفطر من أجل ترميم انهدامات دينية ومجتمعية عديدة، أوليست الزكاة هي الركن الرابع الذي شُرِّعَ أساسًا لرأب صدع الهندسة الاجتماعية التي لم تستطع الأديان القطع الجدري معها، تلك الأديان نفسها التي كان المستضعفون أول المؤمنين بها…
هي محض استفهامات لا أدعي فيها علما غزيراً، فلعلها تكون منطلقاً لإجابات عما علِق من السؤال…
وكل ليلة قدر ونحن أقدر على الإدراك وأجدر بصناعة القدر …