جماعة مراكش الوطنية اليوسفية بزعامة عبد الله ابراهيم بين سنتي ( 1934 -1937 )
محمد الطوگي
فالمرحوم عبد الله إبراهيم سليل أسرة ذات أصول ريفية، ولد بمراكش في 1918/8/24، ويحيل هذا التاريخ دوليا على نهاية الحرب الكونية الأولى التي اكتوت بها أوربا وامتدت انعكاساتها إلى مختلف دول المعمور، كما أن حدث ميلاده جاء بعد أن تصرمت ست سنوات على صك الحماية فبين سنتي 1912 و 1934 سيهب المغاربة بأسلحتهم التقليدية وما سيغنمونه من ذخيرة العدو للدفاع عن استقلالهم وحريتهم فإذا كانت المدن المغربية قد تساقطت تباعا في قبضة المستعمرين فى وقت مبكر نظرا لعدة عوامل فإن ساكنة البوادي و الجبال والصحاري ظلوا شجى فى حلق المستعمر، وكانت معاناة الجبليين أكبر من أن توصف خاصة وقد حرموا من تموين السهول، وفصلوا عن أوديتهم ومراعيهم ومع ذلك رفضوا الاستسلام وامتحنوا رجالا ونساء وأطفالا. فمن رموز هذه المقاومة الباسلة في الأطلس المتوسط موحا أحمو الزياني، وفي جبال الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي زعيم ثورة الريف التى تمكنت بقيادته من سحق فلول الأسبان المدججة بالحديث من العتاد في معركة هضبة أنوال في يوليوز 1921 ولم يقض على هذه المقاومة الباسلة إلا بعد أن تمالأ عليها الإسبان والفرنسيون وشرذمة من الخونة وذلك سنة 1925 على أن هذه المقاومة وإن خفت سنة 1926 فإنها ستستعر بصورة كثيفة فى سنة 1930، ولم يتم التغلب على آخر المعاقل الجبلية بالأطلس الكبير الشرقى والأوسط، والأطلس الصغير، وتافلالت ودرعة إلا بعد معارك عديدة ضارية وذلك سنة 1934(5).
فمثل هذه الملابسات التى احتفت بحياة أمثال عبد الله إبراهيم لابد من استحضارها أثناء الحديث عنهم؛ لأن لها دورا هاما في تكوينهم وتبلور شخصيتهم وتفتيق وعيهم الوطنى فهذه المقاومة المسلحة الصاملة التي ألمعنا ب التي ستطبع جيل عبد الله إبراهيم بطابعها إليها، وخاصة منها ثورة الريف هي التي ستطبع جيل عبد الله ابراهيم بطابعها البطولى والنضالي، وستؤصل وتؤثل للحركة الوطنية فيما بعد. يقول عبد الله إبراهيم: “إن حرب الريف كانت تجديدا حقيقيا للضمير الوطنى فى المغرب وعامل ثقة بالنفس بعد مأسلة سنة 1912 ويمكن اعتبار جيل العشرينيات والثلاثينيات بدرجات مختلفة في عموم المغرب جيل حرب الريف التي أتاحت له أن يفهم حركات التحرير السياسية وثورات الشعوب في العالم إذ ذاك ضد الاستعمار فهما عصريا ” (6)
– وإذا كان المغرب كله قد عانى من ويلات الاستعمار الغاشم فإن نصيب مراكش من هذه البلوى سيكون مضاعفا، فبالإضافة إلى القمع الهمجي الأجنبي هناك تسلط وقمع من سماهم المستعمر سادة الأطلس (7)، ورأس حربتهم الباشا التهامى لكلاوي، الذين تحالفوا مع المستعمر مقابل تقوية نفوذهم ومد أيديهم في التطاول والطغيان.
ففى خضم هذا السياق و المناخ السوسيوسياسي ، وداخل وسط شعبي متواضع سينبثق ذلك البرعم الحالم بالفجر عبد الله إبراهيم. تعلم مبادئ القراءة والكتابة وحذق على عادة الصبية كتاب الله في الكتاب، ووجه بعد ذلك وجهه تلقاء جامعة ابن يوسف التى ازور المستعمر عنها وعن جامعة القرويين بفاس؛ لأنهما امتنعتا من خدمته وعن تمرير إيديولوجيته، ومن ثم فلم تعد أي منهما تقوم بالدور الذي كان لها قبل الحماية من تكوين وتخريج مختلف الأطر الإدارية للمخزن، فقد سحب منهما هذا الدور أشكال التعليم العصري التي خطط لها أن تتكفل بتخريج إداريين جدد ذوي خبرة إدارية ملائمة لتنفيذ ما اصطلح عليه بالإصلاحات التي نص عليها عقد الحماية، ولم يبق المستعمر للجامعتين العتيقتين سوى دور تدبير المجال الدينى والأخلاقي بطريقة تقليدية موروثة عن عصر الانحطاط، الذي أناخ بكلكله في مراكش على مختلف مناحي المدينة؛اجتماعيا وسياسيا وثقافيا ودينيا وإن محاولة إيقاد بصيص من النور وسط هذه الظلمات الدامسة المتراكم بعضها فوق بعض لهى مغامرة غير محمودة العقبي فالاستعمار والإقطاع سيوظفون وسائل قمعهم المادية والمعنوية، وسيستغلون جهالة معظم العامة الجهلاء وضيق أفق بعض العلماء وقلة وعيهم وخيانة الخونة لإطفاء كل جذوة تحلم بالفجر وتلبى نداء الحرية. فمن داخل هذا الوسط الذي يبدو لأول وهلة غير موات ستنبلج مجموعة مراكش الوطنية.
يقول المختار السوسى ” جاء رمضان 1355 هـ بتلك القلاقل المشهورة، منذ ألقى القبض على الزعماء الثلاثة علال واليزيدي والوزاني فهاجت البيضاء والرباط وفاس وتازة ووجدة ،وآسفى ولكن مراكش لم تفارق ما كان معروفا عنها إذ ذاك مشهورا من السكوت والهمود كأنها فى قطر آخر لم يضمها مع هذه المدن مكان واحد. فهذه مراکش لو تركت على ديدنها، ولم ينبغ من بنيها من يتشوفون إلى إيقاظها من نومها العميق لربما أمكن أن تبقى كذلك أحقابا أخرى بعد ولكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه فقيض لها الثلاثة عبد الله إبراهيم والملاح، وعبد القادر حسن حفظهم الله فهم الذين نفخوا فيها وحدهم روح الوطنية حتى تشبعت بها (8)”. ويقول عن حضور مولاي عبد الله إبراهيم وعبد القادر حسن في الحفلة التي كانت قد أقيمت في الرباط باسم جمعية الطلبة الإفريقيين وما أعقبها من ابتلاء “إن البياز استدعى الفاضلين الزعمين المراكشين مولاي عبد الله إبراهيم وعبد القادر حسن، ثم بعد ذلك بيوم استدعيا أيضا إلى المراقبة، ثم استدعى أيضا مولاي عبد الله إبراهيم فسأله الخليفة الزموري والمراقب، فقابلهما بثبات جأش على عادته دائما. وصرح لهما تصريحات كبيرة، كانت عجبا من صغير إذاك مثله، وهو في ذلك الوقت كما برز بأفكاره التي استمات من أجلها، ثم أمر به إلى السجن فأمضى فيه نحو عشرة أيام ثم سرح؛ فكان ذلك كأنه إيقاد طرف الفتيلة حول برميل لا يدري ما فيه فإنه ما لبث بعد خروجه أن اكتسب في الوسط المراكشى بثباته وصراحته فضلا وعزة وشهرة، فغبطه شبان آخرون، فقام هو ورفيقه عبد القادر حسن بتنظيم لفيف من شبان مراكش، ويتعويدهم الاجتماعات، وبالسعى في الذي يرفع شأن مراكش، فصادف ذلك أن فرج عن كل المعتقلين في أوائل رمضان، فتمشوا فى ذلك الذي يحاولونه بأعمالهم تمشيا قطعوا به أشواطا، وكان ذلك أول تنبه عام لشبان كثرين في مراكش (9).
فالمختار السوسى يعزو يقظة مراكش الوطنية إلى جماعة من شباب الحمراء بزعامة عبد الله إبراهيم، ولولا ،هم في نظره لسدرت مراكش في صمتها وهدوئها ولبقيت نائمة وكأنها لا تمت بصلة إلى المغرب، والواقع أن مراكش لم تكن كما قال المختار السوسى سادرة وغافلة عما يجري بل أن المد الوطني الذي اكتسح فاس والرباط وغيرها ما كان ليخطئ ،مراكش، فتاريخها النضالي في العصر الحديث ابتدأ بانضمام ساكنتها والتحاقهم بالمجاهدين في حركة الهبة، ولم ينسوا ما منوا به نتيجة تواطؤ المستعمر مع أكابر مجرمى الإقطاع ولما صدر الظهير البربري في 16 ماي 1930 قام السيد التهامي المعروفي باتفاق مع المرحوم السيد المختار السوسى بدعوة الناس في أسواق الحمراء، لقراءة اللطيف في المساجد وكان هذا السيد موظفا فى المحافظة، فنفته السلطات الاستعمارية من مراكش. كما كلف المختار السوسى السيد العربي بنيس بتوزيع مناشير في الموضوع، ففرقها في السجن وفي المساجد والأضرحة وغيرها. وقد شرع في قراءة اللطيف في جامع ابن يوسف تحت إشراف علماء وطلبة هذه الجامعة” (10).