إدريس الأندلسي
صدمت صورة انهيار جزء من قصر البحر التاريخي بمدينة آسفي كثيرا من المواطنين المهتمين بالشأن العام . لا يمكن أن لا نستحضر، في هذه اللحظات، صور الكوارث التي أصابت بعض المآثر التاريخية عبر العالم. ولا يمكن أن يلف النسيان ذلك اليوم الذي شهد هجوم النيران على كنيسة ” نوتر دام دو باريس” في سنة 2019. و لا يمكن أن يتم ،كذلك، نسيان تلك الحملة التي انطلقت غداة إطفاء الحريق. تم توفير الأموال و الخبرات و العزيمة. و عادت هذه المعلمة التاريخية إلى وضعها الطبيعي سنة 2024. تتهاوي معلمة قصر البحر في ظل غياب وجود إرادة سياسية حقيقية لحماية آثار البلاد التاريخية . الإهتمام و الإرادة الحقيقية ليست مجرد برمجة مالية جزئية ، و لكن تصور متكامل و وعي بعلم و خصائص الحفاظ على التراث.
لطالما ارتفعت الأصوات في مدينة آسفي ،و في غيرها من المدن المغربية، للدفاع عن الموروث الثقافي و حماية ذاكرة المكان لكي لا يضيع الزمن و الزمان. كان و لا زال حماة الذاكرة ينادون ” من أعماق البحر” ، و من قلب صفحات التاريخ، و بكافة الوسائل الممكنة و المتاحة لكي ينتصر الوعي، و العقل و لا يضيع رأسمال تاريخي ثمين ،لا يدرك قيمته من قادتهم قلة علمهم بالتاريخ ، إلى القرار و وسائل القرار و مركز القرار و منافع التحكم في القرار.
سقطت أجزاء من أهم معلمة تاريخية في قلب مدينة آسفي احتجاجا على سوء التدبير. تداعت بكل أساليب التعبير عن الاهتراء، صرخت من خلال تلاشي احجارها التي صمدت لقرون، و ساد صمت أصحاب القرار لأن أصوات التاريخ لا تمطر، في نظرهم، ذهبا و دراهما يمكن أن يحفزهم على إهتمام ذو مردود سياساوي و كثير من نعم الدنيا. صرخت كل آثار آسفي ، التي سماها لسان الدين إبن الخطيب، ” حاضرة المحيط ” ، و صرخوا فيها أن تتجاهل تاريخها و أسوارها، و احياءها، و حاولوا أن يستبدلوا موقعها من ” حاضرة ” إلى بادية. لا يمكن أن ينكر زائر آسفي قبل سنين طويلة أن الحاضرة استسلمت ” للترييف” بكافة تمظهراته و آثاره على تدبير العمران و التجارة و السياسة. و يكفي التجول بشارع الرباط و الولوج إلى الدروب المؤدية إلى باب الشعبة للوقوق على ما لحق بالمدينة من تشوهات عمرانية. و كان أثر الكائنات الانتخابية كبيرا على المجتمع ، و على الثقافة و على العلاقة بالتنمية.
لم تصمد الأحياء التاريخية و لا الآثار البرتغالية و لا حتى خلوة الإمام الجازولي من الإهمال و تغييب الوعي بأهمية ماضي مدينة عريقة . و للتذكير ببعض أخطاء بعض البشر في حاضر حاضرة آسفي، ترخيص كاد أن يحول خلوة الجزولي إلى مرافق صحية. لسنا هنا فقط بصدد قراءة ما كتبه مؤرخ آسفي الفقيه الكانوني الذي وصف البورغواطيين ” بالطائفة الضالة” و التي خربت 300 مدينة، من ضمنها حاضرة المحيط بعد أن تراجعت قوة الدولة الإدريسية، ولكن بصدد الكلام عن مدينة طبعت تاريخ المغرب منذ حقب موغلة في القدم.
انتظر صاحب القرار من وزراء و رؤساء مجالس و عمال الإقليم كثيرا في إنتظار أن تحدث كارثة ثقافية حتى يستفيقوا من سبات. بدأ انهيار جوانب قصر البحر منذ سنين. ساهم في زيادة هشاشة بنيانه محيط بأمواجه العنيفة و مرور متكرر كل يوم لقطار نقل الفوسفاط إلى الميناء . و كان من الطبيعي أن تصل الأمور إلى الكارثة التي محت جزءا مهما من قصر البحر. و تفاقم الأمر منذ سنين في غياب أي قرار لحماية تراث آسفي. و بعد جهود كبيرة في مجال التحسيس بأهمية الرأسمال الثقافي و المعماري لآسفي، بدأ التفكير في وضع خطة لإصلاح، لا زال محدودا، للحفاظ على جزء من المدينة القديمة بأحيائها و سورها و قصر البحر. تم تخصيص حوالي 340 مليون درهم. تمت برمجة التمويل تحت إشراف عدد محدود جدا من الوزارات. لم يكن للمجتمع المدني و خبراؤه المتطوعون أي مكان في برنامج تتبع الإنجاز رغم إلتزام العامل السابق للإقليم بالتشاور المسبق مع جمعيات الذاكرة و التنمية المحلية.
أصبح من اللازم، في ظل هذا الوضع المحزن، وضع مخطط شامل ، معتمد على الدراسات العلمية المتوفرة ، و على رأي خبراء إعادة تأهيل التراث المعماري، لكي لا يتم توكيل الأمر إلى من لا علم له بالأمر ، و إلى من لا يهمه الأمر. تاريخ آسفي يحتاج إلى من يحميه من تهاون المسؤولين، و إلى من يمتلك أدوات علمية و أخلاقية لإعادة تأهيل مكونات آثار مدينة آسفي. و يجب أيضا أن يستفيد صاحب القرار في آسفي من التجارب الناجحة بالمغرب. و لا يجب أن ننسى ذلك العمل الكبير الذي أدى إلى إعادة تأهيل المدينة القديمة لطنجة. و قد أصبحت أزقة السوق الداخلي و الأحياء المؤدية إلى حي مرشان، و قصبة طنجة و سورها مزارا لمئات الآلاف من السياح المغاربة و الأجانب. و قد نجح هذا المشروع بفضل برمجة و تخطيط من طرف أهل العلم و المعرفة و تنفيذ و متابعة من طرف أطر وكالة تنمية مدن الشمال. و يحق لمدينة آسفي ،ذات التاريخ الكبير، أن تحظى بنفس العناية.