يقول العيط المراكشي القديم:
“من فوق السور عطاني بوجور، يسحابلو راني برّاني، من فوق السور عطاني بوجور…
ويا لامان (الأمان) يا مّي لامان على ربي فين هو لامان…عوجوك القومان عليّا…شكايا لسيدي ربي”…
إذا كان التأريخ قائما على تواريخ لأحداث مهمة جرت لتقسّم ذاكرة الناس إلى فترة قبلها وأخرى بعدها، فإن المقاربة الأماكنية في بعض الأحيان تفرض نفسها بمواقع وبنايات تختزن وتمزج الجدران الزمكانية في بوتقة واحدة، وفي حالة مراكش، فإن السور هو الذي لعب هذا الدور لدرجة أنه وليوم الناس هذا، ما زالت الألسن تميز ما بين “داخل السور” والمدينة الجديدة التي بنيت خارجه انطلاقا من الربع الثاني للقرن العشرين…
إلا أن ما يمهنا من هذه الدراسة هو الوقوف على تناقض أو بالأحرى هي مفارقة لا يشار إليها البتة في علم الأنثروبولوجيا والتأريخ الخاص بالمدينة الحمراء مراكش؛ ألا وهي أن السور كان من المفروض أن يؤدي إلى نمط عيش يتسم أهله ومُتَبَنُّوه بالحيطة والحذر في التعامل مع الآخر، وذلك باعتباره (السور) حاجزا يقف حجر عثرة في طريق التواصل وذلك على الرغم من كونه تاريخيا كان يفتح طيلة أغلب فترات اليوم (من الصباح إلى قرب وقت صلاة المغرب تقريبا)، لكن ما انقطع وانفصل ليس كما دام واتصل كما يقال…
مراكش ستشذّ وتخرج عن هذه القاعدة بما أن الأسوار لم تساهم في عزل أنماط تصرّف وتعامل ساكنتها مع “الأجنبي” أو “البرّاني” كما قال المغاربة بلهجتهم قديما، أو “غير المراكشي” بشكل عام، بل على العكس من ذلك، فقد اتسم تعامل المراكشيين على امتداد التاريخ مع الضيوف الوافدين على المدينة سواء للإقامة والاستقرار النهائي بها، أو حتى مرورا بها مرور الكرام، بالودّ وكرم الضيافة ليس في شقهما المادي فحسب، بل في الجانب السلوكي الإنساني الأهم والذي يجعل غير المراكشي يندمج بسرعة داخل المدينة ولا يحس معها بأي اغتراب أو إقصاء…
تعدد الأجناس والأعراق التي شكلت النسيج المجتمعي لمراكش منذ التأسيس، بالإضافة إلى كونها عاصمة لإمبراطورية مترامية الأطراف تمر عبرها وتتلاقح فيها ثقافات متعددة المشارب، ثم ميل ساكنتها الفطري إلى المزاح والتمتع بمباهج الحياة وتبنّيهم لنمط سلوكي يتسم بما يسمونه هم “الحيالة” و”التعكريطة”، ولا ننسى تنوع وتعدد النسيج المهني للساكنة من حرفيين وصنّاع وتجار وفلاحين يقابلهم من الجانب الآخر طبقة البلاط الملكي بما ينضوي تحتها من بطانة تبدأ بالصدر الأعظم ولا تنتهي بقايد المشور والجند والحرس والعسس العاديين، بما يفرضه ذلك من تعدد الثقافة الكلامية وغناها وهي سمة وقاسم مشترك بين كل المدن التي مرت منها العواصم مثل فاس ومكناس أيضا…
هذه الظاهرة لم تفت المراكشي القديم اللمّاح الذي عبر عن قضية الاندماج تلك بالمثل الشعبي الشهير:
“البرانّي إيلا تبلّد بحال أڭوال إيلا تجلّد”…
وأڭوال هو الجلد المستعمل في تغشية وتبطين الدربوكة وهو بمثابة العقد الناظم بين أجزائها التي لا يمكن أن تتحرك وتطرب من دونه، والإسقاط هنا يدلّ على أن الوافد المستحدث لا يتأخر في الانسجام داخل الوسط الجديد تماما كما يفعل “أڭوال” الذي يعد آخر جزء يتم تركيبه في الدربوكة، لكنه لا يلبث أن يصير طرفا أصيلا منها لا يمكن الاستغناء عنه وإلا “خسر الميزان” و”مال الواد”؛ وتلك سنّة الله في خلقه لأن التعصب والانكماش لا يمكن أن يؤدّيا إلا إلى زرع فتيل الحقد والكراهية، أما الاندماج وحسن الجوار والتعامل بالتي هي أحسن فذلك المطلوب والمرغوب ما دام الناس سواسية كأسنان المشط، وما داموا جميعهم من آدم وآدم من تراب.
مراد النصيري