الفصل الأول : طفولة واعدة في كنف أسرة وطنية
نظم الباشا التهامي لگلاوي بواسطة اعوانه – إذ كان في رحلة لباريس- في عام 1937 ، استقبالا فخما لنائب كاتب الدولة الفرنسي بول رمادييه الذي زار مراكش مصحوبا بالمقيم العام نوغيس . لكن في غمرة الاحتفال وقع ماةلم يكن في حسبان منظميه .
تدفقت امامهم جماعات من المعاقين و المعوزين و المهمشين لتستقباهم بما لم يخطر ببالهم من صىاخ وهتافات احتجاج ، وهو ما كشف عن واقع البؤس والفقر المدقع الذي كان الكلاوي ومن لف لفه يسعون إلى طمس حقيقته .
أمام هذه الفضيحة المدوية ، شن أعوان الباشا الكلاوي وعلى رأسهم خليفته ” أحمد البياز ” حملة من الاضطهاد والقمع العنيف في الشوارع والبيوت ، وشملت الاعتقالات كل من كان يمت بصلة إلى ما حدث ، وفرضت على جلهم الأشغال الشاقة ، ينبغي القول إن هذا التمرد الشعبي ذلك يهون أمام ما هو أفظع . كان من إبداع عدد من الوطنيين من بينهم عبد الله إبراهيم * . لكن كل تم إرغام مجموعة من خيرة العلماء ” على القيام بأشغال مهينة تتمثل في تنقية مجاري الواد الحار بتارودانت من النجاسة ، نكاية بهم وإذلالا لهم . كان هؤلاء العلماء قد عرفوا بمواجهتهم للتعليم الفرنسي ، وشروعهم في تأسيس مدارس حرة لفائدة أبناء الشعب ، أحسست ، وأنا بعد صبي في السادسة من عمري ، بامتعاض كبير ، بل بزلزال نفسي وعاطفي بألم يعز عن الوصف ، نظرا لما كنت أكنه لهؤلاء وجلهم أساتذتي ، من حترام وتقدير . ومع مرور الوقت ، اتضح لي أن هذه الواقعة ساهمت في تعزيز الجانب خطري من حسي الوطني ، وأنها تفسر لي ، إلى حد كبير ، ما علقته ، على تداد حياتي ، من أهمية على العلم والتعليم ، بقدر ما أثبتت ، بلا منازع ، مية تنوير الناس والاهتمام بتعليم الناشئة .
فلا غرو إذن أن تكون بداية الحديث حديثا عن علاقتي بالتعليم .
مرحلة التعلم في الكتاب
كانت ولادتي في درب سيدي احمد السوسي لحي سيدي بتسليمهم الجزولي، درب الجامع في 2 مارس 1929،كان ذلك بعد وفاة أخي محمد بقليل، ومن حسن حظي ان والدي اختار لي اسم ابيه، الذي كان يحظى بتلوقار و التقدير في العائلة ، أكسبني هذا الاسم تقديرا و احتراما في طفولتي وضمن لي اعتناء كبير من لدن أفراد العائلة ، اذ أملوا مني أن أخلف جدي . كان هذا شيئا مهما بالنسبة إلي .
وبمجرد ما بدأت أنطق بعض الكلمات ، في السنة الثالثة من عمري ، الحقني أبي بكتاب ، في سوق الغاسول ، البعيد عن منزلنا ؛ لكن السمعة الطيبة التي حظي بها الفقيه السوسي لحسن – إذ كان فقيها خيرا حافظا للقرآن – جعلت أبي يصبر على أن أقطع تلك المسافة الطويلة ، ذهابا وإيابا ، رفقة خادمتنا في المنزل . ومن إشفاقها علي كانت تحملني ، أحيانا ، على وجعلتني أشتاق إلى لحظة الذهاب إليه . كتفيها . أذكر أن الفقيه قربني منه . إذ كان يجلسني بجانبه- لكن العناية ، التي حظيت بها من لدن أفراد عائلتي هي ما حببت لي الكتاب ، نمي كل هذا في قلبي شغفا بحفظ القرآن ، فحرصت على الانضباط كي لا أحرم من نشوة الذهاب إلى الكتاب . حتى أجيد القراءة . وإذا حصل ومرضت فإنني كنت أخفي ذلك عن عائلتي بلغ حفظي القرآن الكريم إلى سورة الرحمان ، فأقام والدي حفلة على شري . كانت تلك أول مناسبة لأن أركب صهوة الحصان ، كما هي العادة ، متابعة الدراسة في الكتاب . ولما حفظت سورة ” طه ” التي تسمي ذاك الحديث : ” التخريجة ” . كان ذلك تحفيزا آخر شجعني على أقام والدي حفلة أخرى ، ركبت خلالها الحصان ، من جديد . ثم استأنفت الحفظ إلى أن ختمت ستين حزبا ، وعمري لم يناهز الثامنة ، وهو ما أكسبني حافظة قوية ( وجعلني أحظى بحفلة أكبر ) . بدأت التقط الأشياء بشكل سريع بمجرد استماعي إليها . شرعت في الختمة الثانية . في هذه الفترة انتقلت أسرتي من حي سيدي احمد السوسي إلى حي قاعة ابن الناهيض ، سكنا في دار خال والدي الفقيه الجبلي ، والتحقت بكتاب الفقيه الجبلي ، الملاصق للدار ، لأدرس على يدي الفقيه بوعزة . كانت له نظرة متقدمة ، شيئا ما ، في التعليم ، وفي أساليبه : إذ تفرد ، إلى جانب كتاتيب قليلة ، باستعمال السبورة أثناء التعليم.
كان يدرس فيه ، كذلك ، الفقيه عبد الكبير الزمراني ، الذي رجع من رحلته ، في الشرق ( مصر ) ، حاملا معه كتابا مدرسيا في مادة النحو ، هو كتاب ” النحو الواضح ” ، يلقنه لنا بطريقة عصرية ، أي على السبورة ( بدل الألواح ) . ولذلك قضينا معه مدة لا بأس بها ، وأتذكر أنني كنت أدخل معه ي خلاف سببه أنني كنت أميل إلى الكتابة باليد اليسرى ، وهو يلح علي ي أن أكتب باليمنى ، تبعا للحديث الشريف، الذي يحث على التيمن في حنيع الحركات. ولمي اخفف من وطأة هذا الخلاف كنت اذا نظر الي أحاول أن أكتب باليد اليمنى حتى لا يلومني ، وإذا التفت إلى السبورة أمرر القلم إلى اليد اليسرى . وحين اكتشف أمري تفهم الوضع .
درست النحو الواضح ، وبقيت ختمتي الثانية للقرآن بيد الفقيه بوعزة ي هذه الأثناء – وبحكم أن الدار التي كنا نقطن فيها كبيرة وواسعة- كان أبي ينظم اجتماعات مع بعض مؤسسي الحركة الوطنية ، في مراكش مثل عبد الله إبراهيم ، وعبد القادر حسن ، وامحمد الملاخ ، وآخرين .